27-أكتوبر-2022
عيسى مخلوف ضفاف أخرى

كتاب ضفاف أخرى

يقيم عيسى مخلوف بين كتب ولوحات ومتاحف ومعارض. هذه الإقامة لا تنجم عن هوى، وإن كان الهوى موجود ومحسوس. إنها إقامة من لا يملك موطنا آخر يؤوب إليه في حله وترحاله. عيسى مخلوف في "ضفاف أخرى" (حوار مطول أجراه علي محمود خضير مع عيسى مخلوف وصدر عن دار الرافدين)، يبدو كما لو أنه يعيش في الانتظار. انتظار أن يصبح البلد الذي هاجر منه شابا، قابلا لأن يقيم المرء فيه. لا يعني هذا الانتظار أن البلد الذي هاجر منه مخلوف ليس قابلا للسكنى والإقامة. فهو مثله مثل بلاد أخرى في المنطقة، ما زال في طور مراهقة اجتماعية وسياسية واقتصادية، ولم يشب عنها بعد. لكن مراهقته هذه لا تمنعه من صناعة ثقافة وفنون وسياسات وأفكار. غير أن هذه الأفكار والفنون والآداب، التي تنشأ في حضن المراهقة هذه، تمت بصلات وثيقة لحاضر البلد وسبل التغلب على المصاعب التي يواجهها، ما يجعلها، في الأغلب الأعم، أشبه عملية نضالية، تفرض على المشتغلين بها أن يبدلوا في أفكارهم وأساليبهم وتطلعاتهم لمواجهة الأزمات المتعاقبة.  

عيسى مخلوف ليس مثقفا وطنيا إذا كنا نقيس الوطنية على هذا النحو. لكنه ليس مثقفا عالميا أو معولما. ذلك أنه ورغم إقامته الطويلة والثابتة في المنفى الذي ارتضاه وطنا، لم يكف عن الانشغال بواقع البلاد التي نفي منها وأحوالها

عيسى مخلوف ليس مثقفا وطنيا إذا كنا نقيس الوطنية على هذا النحو. لكنه ليس مثقفا عالميا أو معولما. ذلك أنه ورغم إقامته الطويلة والثابتة في المنفى الذي ارتضاه وطنا، لم يكف عن الانشغال بواقع البلاد التي نفي منها وأحوالها. وهو ليس انشغالا على طريقة انشغالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، أي أن عيسى مخلوف لا يتورط في التعامل مع ما يجري في تلك البلاد بوصفه مؤهلا لإسداء النصيحة، أو الادعاء بأن خياراته هي الأصح في التعامل مع تلك البلاد. هذا رجل يحلم طوال دقائق أيامه ولياليه في وصول هذه البلاد إلى الموقع الذي تصبح معه متسعة لساكنيها.

الأرجح أن عيسى مخلوف الذي هاجر من لبنان في بدايات الحرب الأهلية التي اندلعت منتصف سبعينيات القرن الماضي، ولم يعد إلى بلده إلا زائرا، يتجنب الإشارة إلى معاينته لأجيال المنفيين التي تفد إلى أوروبا وأمريكا عند كل مفصل أو حدث، ذلك أنه ما زال، على الأرجح، يغذي الأمل الضئيل في أن تنجح تلك البلاد في استعادة أهلها. لكنه كفرد لا يغمض عينيه ولا يشيح بوجهه. فهو يكتب وينشط في سياق شرق أوسطي عموما ولبناني خصوصا. لكنه يدبر عيشه في باريس، ومدن أخرى أحيانا. وعليه تبدو باريس بالنسبة له مهرجانا دائما، ما يعنيه منها هو ما يحسب أنه قد يساعده ويعينه على ترتيب أفكاره وتغذية آماله في تمكين البلاد، التي هجرها قبل أن يبلغ أشده، من العبور من التيه الذي لا تحسن غيره.

باريس التي يعيش فيها عيسى مخلوف هي مدينة مؤقتة. لكنها كل يوم تثبت له أن مؤقتها يمتد لأجيال وحيوات تفيض عن حياة شخص واحد. كل يوم تستقبل المدينة بعضا من المنفيين، طوعا أو قسرا، وغالبا ما يقيم هؤلاء في سجون ذكرياتهم. ومع كل قادم جديد يدرك عيسى مخلوف أن إقامته في هذه المدينة قد مددت لجيل كامل أو جيلين.

لا أحسب أن عيسى مخلوف فريد في تطلبه هذا. تاريخ البلاد التي نتحدر منها معا زاخر بأمثاله. هذه البلاد تأسست أفكارها وابتُدعت أنظمتها السياسية، واغتنت ثقافاتها بجهود فنانين وكتاب ومفكرين مهاجرين وأعمالهم. دساتيرنا، أفكارنا الكبرى، فنوننا، ثقافة العيش التي حلمنا بتحققها، كانت جزءا من نتاج مفكرين وأدباء مهاجرين. لقد تأسست أساطير هذه البلاد وأحلامها وراء البحار. وعلى وقع تلك الأفكار وفي صداها، جربت هذه البلاد حظها في العيش والثبات والنمو. والأرجح أنها استنفدت حظوظها كلها.

يشير عيسى مخلوف إلى آخر أيام الشاعر اللبناني صلاح ستيتية الذي ما أن أهيل التراب على جثمانه حتى خسر لبنانيته التي بذل كل سني حياته في خدمتها

في "ضفاف أخرى" يشير عيسى مخلوف إلى آخر أيام الشاعر اللبناني صلاح ستيتية. هذا الشاعر شغل في بعض أيامه مناصب رسمية في الدولة اللبنانية. لكنه مات ودفن في مدينة غريبة. وما أن أهيل التراب على جثمانه حتى خسر لبنانيته التي بذل كل سني حياته في خدمتها. العالم، في ما يبدو لم يعد يصغي لأمثال هؤلاء. القادرون على التأثير في مسارات سياسية واقتصادية وفكرية أصبحوا في مكان آخر. وهذا المكان لم يعد يشبه سفينة تبحر نحو بر ما، لقد خسر البشر قدرتهم على التأثير بمعزل عن المكان الذي يقيمون فيه. لن تنجح في فرض منطقك اليوم إن لم تكن جزءا من سلطة مالية، اقتصادية، حكومية، لها وزنها في العالم. وهذا يفت في عضدنا كثيرا على نحو محبط. فلم تعد أفكارنا، مهما كانت دقيقة وموحية، قادرة على التأثير في ما يجري حولنا من أحداث. هكذا تحولنا جميعا إلى مراقبين، نراقب حرب القوى المؤثرة على الطبيعة ونراقب حرب الطبيعة ضدنا جميعا. ولا نملك أن نغير في هذا المسار. نراقب حدة التفاوت بين الدول وبين الطبقات والشعوب، ونعرف أن التحذيرات التي نطلقها لن تجد آذانا صاغية عند من يملكون القدرة على التأثير. وعليه تتحول معرفتنا إلى لعنة، وأوطاننا إلى مناف. رغم ذلك ربما يسع الواحد منا أن يقيم في مدينة لا تهددها العواصف التي تدق أبواب البلاد التي تحدرنا منها. لكننا في حقيقة الأمر، نشقى بمعرفتنا. معرفتنا هذه هي التي تمنعنا أن نتوطن في أي مكان، والتي تجبرنا على الإقامة في ذاكراتنا الناقصة، ككل ذاكرات المنفيين.

"ضفاف أخرى" كتاب يدلنا على ما ضاع منا وما سيضيع مستقبلا. يستوي في هذا الضياع الناس وأفكارها وإنجازاتها. كلنا ضائعون، لكننا ضائعون حقا عن البلاد التي نحب. أما المدن التي نقيم فيها في الأثناء فتشبه مقعدا في حديقة نستريح على ضفافه قبل أن نكمل السير إلى ضفاف أخرى.