17-يناير-2024
كتاب العصرية والمُعاصرة (الترا صوت)

كتاب العصرية والمُعاصرة (الترا صوت)

صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "العصرية والمُعاصرة: أفكارٌ من أجل فلسفة بيثقافية"، وهو من تأليف الباحث رشيد بوطيب. يتضمن الكتاب قسمين وسبعة فصول تتمحور حول مواضيع العرب والغرب عمومًا، وما يتعلق بهما من الفلسفة البيثقافية، والبيثقافية النقدية، وخيانة الترجمة سوسيولوجيًّا، ونقد الأيديولوجيا اللغوية، والعلمانية، والعصرية، والمعاصرة واغتراب المفهوم وغيرها. يقع الكتاب في 232 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

ليس هدفُ هذا الكتاب التأريخَ للأفكار وأعلامها، والسؤال الذي يعالَج فيه ليس وليدَ اليوم، بل هو قديم ومُلحّ منذ زمن رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وفارس الشدياق وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، إنه السؤال عن علاقتنا بالحداثة الغربية، وعن صيغتها أو شكلها.

أسئلة أساسية ومُلحّة

إن السؤال الأساسي الذي سيشغل الفكر العربي الحديث ويتمظهر في مختلف إنجازاته النظرية والعملية هو سؤال النهضة والترقي، وليس في إمكاننا أن نتوسّع ضمن هذا السؤال عن استكناه العلاقة بالغرب، باعتبار أن سؤال الترقّي كان نتاجًا للاصطدام بالحضارة الغربية، وباعتبار أن الوعي تبلور منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر في العالم الإسلامي على قاعدة أن الإصلاح لن يتحقق من دون اقتباس من الغرب، كما ارتبط هذا الوعي بأسئلة محددة، أمثال: ما المجتمع الفاضل؟ ما القاعدة التي يجب أن تهيمن على عملية الإصلاح؟ أَمِنَ الممكن استنباط هذه القاعدة من مبادئ الشريعة الإسلامية أم من الضروري الالتجاء إلى تعاليم أوروبا الحديثة وسلوكها؟ وهل هناك، في الواقع، تناقض بين الاثنين؟

يتمحور الكتاب حول مواضيع العرب والغرب عمومًا، وما يتعلق بهما من الفلسفة البيثقافية، والبيثقافية النقدية، وخيانة الترجمة سوسيولوجيًّا، ونقد الأيديولوجيا اللغوية، والعلمانية، والعصرية، والمعاصرة، وغيرها

لما تزل تشغل الوعي العربي الحديث الأسئلةُ المتضمنة إشكالية العلاقة بين الشريعة الإسلامية وتعاليم أوروبا، على الرغم من محاولة جيل رفاعة الطهطاوي الإجابة عنها بطريقته، فاختار بسبب طبيعة نظام الحكم السائد وضع الحداثة أوتوقراطيًّا على سرير بروكرست (نسبة إلى الحدّاد اليوناني بروكرست، وكان يهاجم الناس ويمطّ أجسادهم أو يقطع أرجلهم لتتناسب أطوالهم مع سريره الحديدي. ويشير المصطلح إلى فرض الرأي بالقوة أو ليّ أعناق الحقائق لتناسب ما افترضناه من لدن أنفسنا)، في حين رأى التونسي أن سبيل تقوية الدول الإسلامية حاضرًا هو في إقناع المسلمين المحافظين بأن الأفكار والمؤسسات على الطراز الأوروبي ليست مخالفةً للشريعة بل تنسجم مع روحها، وفي الجمع بين "النصوص" و"الظروف". إن ما دعا إليه الطهطاوي والتونسي لم يكن في الحقيقة سوى ترجمة للفكرة القائلة: لا محيد عن الانفتاح على الحداثة الغربية.

وقد ظل سؤال "كيف يصبح المسلمون جزءًا من العالم الحديث من دون أن يتخلوا عن دينهم؟" يؤرق الرعيل الأول من النهضة، وكان جوابهم على الدوام توفيقيًّا، وصفه ألبرت حوراني بأنه دفاع "عن المدنية الحديثة بمفاهيم إسلامية تقليدية"، وهي مسألة في غاية الأهمية؛ لأنها تتعلق بالترجمة البيثقافية. ولن يبتعد الأفغاني ورفيقه عبده عن هذا النهج التوفيقي الذي يدعو إلى إلحاق الحاضر بالماضي، ولغة الحداثة باللغة التقليدية، وهو ما أكده حوراني بقوله: إن "عبده تابع نهج الطهطاوي والأفغاني فوحّد بين مفاهيم تقليدية إسلامية وأفكار سائدة في أوروبا الحديثة"، وبهذا انقلبت تدريجيًّا مصطلحات "المصلحة" إلى المنفعة، و"الشورى" إلى الديمقراطية البرلمانية، و"الإجماع" إلى الرأي العام ... وهكذا.

مَطمَح كتاب العصرية والمعاصرة

لا يطمح كتابنا إلى تقديم جواب عن سؤال كهذا، بل إلى صوغ جديد له يهتم باجتهادات الثقافة العربية وانفتاحها النقدي على الفكر الغربي وفكر الجنوب. يقول غوته: "ينتهي كُلّ أدب بأن يملّ نفسه، ما لم يُنعشه إسهام أجنبي"، ومن هذه المقولة اعتبر عبد الفتاح كيليطو أن "الترجمة أنقذت الأدب العربي وجددته، كما بعثت روحًا جديدة في اللغة الأدبية". وقد أيّد كتابنا أيضًا فكرة أولوية الترجمة ومركزيتها في السياق العربي، ولكن أي ترجمة عنى؟ أهي الترجمةُ المنتهية بنوع من التوفيقية العقيمة أم الطالبةُ التماهيَ المطلق بالغرب ولغته ومنجزاته، ما الذي نحتاج إليه منها وما الذي لا نحتاج إليه؟ ألا نستطيع مؤاخذة أنصار ترجمة كهذه باغترابهم عن واقع مجتمعاتهم وانتهائهم إلى الدفاع عن "ثقافة انفصالية" مغتربة؟

لا يشكك كتاب العصرية والمُعاصرة من خلال نقده التغريب في الحاجة إلى الانفتاح على الحداثة الغربية والتعلم منها، لكنه يناقش حاجات مجتمعاتنا، مستوحيًا من تمييز مبدع بين "العصرية" و"المعاصرة" لقضايانا، لمُصلح سلفي هو علال الفاسي، وهو تمييز تبنّاه عبد الله العروي من بعده، وانطلق منه الكتاب ليصل إلى طرح فلسفة بيثقافية من وجهة نظر عربية، وربط التفكير العربي بالمجتمعات العربية وقضاياها من خارج ثنائية "التراث" و"الحداثة"، أو "السلفية" و"التغريب"؛ أي من خارج أيديولوجيا علال الفاسي التوفيقية وتاريخانية عبد الله العروي أيضًا.

ويتجه الكتاب إلى التمهيد للإجابة عن سؤال "أي علاقة بالحداثة الغربية نريد؟" ثم القول إنها - كما في لغة مارتن هايدغر - علاقة "تحويل للفكر"، وتحديد الفكر الذي يجب تحويله وسبب ذلك، موضحًا أن الفكر العربي الحديث والمعاصر في خطَّيه السلفي والتغريبي، المسكونَين برهاب التاريخ، واللذين يرهن كلّ منهما التفكير بأصل مفارق لواقع مجتمعاتهم، إلى درجة أن ابن خلدون في مقدمته اعتبر الفقهاءَ "أبعد الناس عن السياسة"؛ لأنهم لا ينطلقون من الواقع، وفكرهم يتمحور حول "النص" وفهمه باعتباره مفارقة للتاريخ. وكتب علي أومليل أن نتيجة القول الخلدوني العميق والجريء هذا هو نزع القيمة العلمية لخطاب الفقيه الذي يقطع بأسبقية النص المطلقة، واستبدال سلطة العالم الاجتماعي بسلطة الفقيه في الخطاب العلمي عن المجتمع.

إن الفكر التغريبي سلفي في منطقه؛ إذ ينحصر في نقل الفكر الغربي لا "تحويله" أو ترجمته إلى أسئلة جديدة، فهو استمرارٌ لرهاب التاريخ، فلكي يكون الفكر تاريخيًّا عليه أن يمرّ عبر "الواقع" وليس عبر "الأصل"، أما اللاتاريخي من الفكر فيُسيء فهم "الأصل" وينحطّ به إلى أصل مُتخيَّل أو ميتافيزيقا سيئة.

ويهدف كتاب العصريةُ والمُعاصرة كذلك إلى صوغ فلسفة بيثقافية عربية، فالفكر العربي المعاصر، بما فيه الأكثر محافظة، كان ولا يزال منخرطًا منذ القرن التاسع عشر في التفكير البيثقافي، نتيجةً لصدمة الحداثة وإكراهاتها، ومع ذلك لا نزال غير قادرين على ادعاء وجود فلسفة بيثقافية عربية، فاهتمامات الفكر عندنا ظلّت من طبيعة إبستيمولوجية وأيديولوجية وسكولائية، وهو لم يَطرح سؤالَ الآخر إلا من خلال منطق مانوي ينتصر للأصالة ضد الكونية فيخسر هذه الأصالة؛ إذ لا أصالة خارج التاريخ، وهو منطق ينتمي إليه الفكر التغريبي أيضًا.

الترجمة والفلسفة البيثقافية

إن صوغ فلسفة بيثقافية عربية تتمحور حول الترجمة يستدعي أولًا التحرر من لغة التفكير الأيديولوجي المستبدة، وإعادة صوغ السؤال فلسفيًّا ونقديًّا بالعودة إلى الواقع الاجتماعي والقول بأولويته وتعدديته وأسبقية أسئلته وقضاياه، وتحقيق منعطف في أشكال الترجمة السائدة التي تؤبّد اغتراب التفكير عن أسئلة المجتمع، وثانيًا تحرير الترجمة من هيمنة النموذج الغربي للترجمة والتفكير، والذي يعرف امتداده في ثقافتنا.

يذكر محمد عابد الجابري عن مقولات الخطاب العربي الحديث أنها "مقولات جوفاء تعبّر عن آمال أو مخاوف، ما جعلها تعكس أحوالًا نفسية لا حقائق موضوعية [...] الخطاب العربي الحديث كان ولا يزال خطاب وجدان لا خطاب عقل، ويُعبّر عن انفعالات الكاتب العربي إزاء الأحداث لا عن منطقها".

وقد يطرح سؤال نفسه في هذا المقام، وهو: "لماذا على الفلسفة البيثقافية العربية أن تركز على العلاقة التي تربطها بالغرب وثقافته تحديدًا دون غيرها؟".

الواقع أنه سؤال لا يخلو من سذاجة، ليس لأن الغرب لا يزال - رغم ظهور منافسين له - المتحكم الأول في الحركية الحضارية للعالم، بل لأن ثقافته هي الأكثر حيوية وتعددًا ونقدية مقارنة بالثقافات الأخرى، وإذا تناولنا بالبحث مجالًا علميًّا غربيًّا واحدًا هو الإنسانيات، لأدركنا البون الشاسع بين الغرب وبقية العالم، حتى إن الجابري ذهب إلى أننا لا نملك حرية اختياره وترْكه، بل هو "فرض نفسه علينا كنموذج ’عالمي‘ وحضاري للعالم كله ذي مقومات لم توجد سابقًا"، وهو ما يؤيده أيضًا ناصيف نصار، معتبرًا أنه لا يمكن تجاهل الحضارة الغربية أو عدم التفاعل معها.

وإضافة إلى ما تقدّم، هناك البعد التاريخي للعلاقة بين الثقافتين الغربية والعربية. يقول عبد الله العروي في هذا الشأن: "تكمن خصوصية الثقافة العربية إذا قارناها بالثقافة الهندية أو الصينية، أنها تكونت في جو غلب عليه دومًا منطق المواجهة مع أوروبا"، فلا يجب النظر إلى الغرب باعتباره نازلةً طارئة على العالم العربي - الإسلامي، بل جزءًا من ماضينا قبل حاضرنا؛ ما يفرض بقاء سؤال العلاقة بالثقافة الغربية مُلحًّا لكل فلسفة بيثقافية عربية من دون إغلاقها أمام تجارب فكرية وثقافية مغايرة.

ما الغرب؟

نادرًا ما يسأل العرب أنفسهم علميًّا عن "الغرب" وموضعه في ثقافتهم، فـ "الغرب" الذي عرفوه مرتبط بالحروب الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. علينا نحن العربَ عند محاولة الإجابة عن هذا السؤال الحذَرُ أولًا من اعتبار "الغرب" مفردًا؛ إذ نتماهى بهذا مع التيار الأكثر محافظة في الغرب، الذي يقول بهوية مسيحية يهودية للغرب.

إن القول بماهية لاملّيّة وعلمنة عنيفة أساسيتين للغرب، وبأنه لذلك لا يرى في وجود الإنسانية سوى دلالة مضادة له، وأنه اليوم آلة صماء بلغت أقصى استعدادها لتفريغ العالم من "الآخر"، يُبعدنا عن معرفة الغرب وتجربته، اللتين لا نلتقيهما – كما يوضح فرانسوا جوليان - إلا وراء الهوية والاختلاف، وحتى اعتبار ما وقع في الحادي عشر من سبتمبر صدامًا بين الإسلام والحداثة يعيد إنتاج المقاربة الثقافوية الغربية غير المنطلقة من إتيولوجيا تاريخية - اجتماعية للإرهاب.

ليس الغرب اختلاقًا غربيًّا على الدوام، بل هو شيء دأبت شعوب عدّة على تخيله منذ زمن طويل ونمّطته ووظّفته واستخدمته. إن لكل ثقافة "غربها"، فهو للبلاشفة ما يجب أن تحققه روسيا لتجاوز بربريتها، ولليابانيين الطريق لحماية الاستقلال القومي؛ إذ لا قيمة للروح الآسيوية الضاربة في القدم إن لم يكن في المستطاع حمايتها من الاستعمار، وللأتراك قبول حضارة الغرب، وإلا فإنهم يُستبعَدون من قواه، لكنّ هذا المنطق وتلك التصورات الثالثية عن الغرب لم يجديا نفعًا، ففي الهند على سبيل المثال، برز طاغور لينافح عن ضرورة النهوض من داخل الثقافة الآسيوية، وينتقد سطحية الثقافة الغربية وفراغها مقابل روحانية آسيا، في حين راوحت الثقافات الثالثية بين موقف التغريبية ولو على جثث الشعوب كما ينحو البلاشفة، وموقف السلفية ولو بالانسحاب من العصر.

إن ثنائيات "الشرق - الغرب"، أو "الغرب – الإسلام" وغيرها لا تنفي الاختلافات بين مجتمعات غربية تحررت من سطوة "الراديكالية الاجتماعية" وربقة الجماعة، ومجتمعات عربية لا تزال تحكمها الجماعة رغم معالم التحديث فيها، ولذلك لم يفقد تمييز قسطنطين زريق بين "الغرب" و"الشرق" راهنيته في العالم العربي حين قال: "الغرب الذي أمسك بزمام المبادرة في السنين الخمسمائة الأخيرة لا يزال ينظر إلى الشعوب الشرقية كأنها وسائل لغاياته الخاصة، لا كغايات في ذاتها. لقد جاء الغربي إلى الشرق فاتحًا أو مستعمرًا أو تاجرًا، ناشدًا الأسواق، والعمالة الرخيصة، والطرق التجارية، ومناطق النفوذ، مستخدمًا القوة التي وضعها العلم والتقنية في يديه"، بل يمضي زريق إلى التشكيك في إنسانية السياسات الغربية التي تُعطّل تحرر الشعوب.

وأخيرًا، نحن لن نغادر المنطق الثقافوي إذا لم ندرس "الغرب" و"الشرق" ومُختلف أشكال العلاقات بينهما انطلاقًا من نقد سياسات الرأسمالية التي تعيد إنتاج التخلف في السياق الثالثي. إن أعمال أندريه غوندر فرانك وإيمانويل والرشتاين وسمير أمين لم تفقد في الواقع الكثير من راهنيتها، ويعود سبب لجوئنا إلى مقولات مرتبطة بالغرب عندما نفكر في سُبل تجاوز تخلفنا إلى جهلنا تاريخنا، وهو ما يقود، بحسب غوندر فرانك "إلى مفاهيم خاطئة حول التخلف والتنمية المعاصرة".

ليس هدفُ هذا الكتاب التأريخَ للأفكار وأعلامها، والسؤال الذي يعالَج فيه ليس وليدَ اليوم، بل هو قديم ومُلحّ، أي السؤال عن علاقتنا بالحداثة الغربية

ينصرف القسم الأول من الكتاب (ويتضمن ثلاثة فصول) إلى مناقشة نقدية للفلسفة البيثقافية الغربية، وإلى ضرورة التركيز داخل الفلسفة البيثقافية العربية على عملية "انتقال الأفكار" وبناء حوار مع تقاليد فلسفية أخرى، بخلاف الطابع الكوني للفلسفة الغربية، الذي يحرمها من كل لقاء حقيقي بالفلسفات الأخرى، لاعتباره إياها مجرد فلسفات إثنية.

أما القسم الثاني من الكتاب (يتكون من أربعة فصول)، فيحاول تفكيك "رطانة الأصالة" كما تتجلّى في السياق العربي، انطلاقًا من "نقد اللغة" باعتباره نقدًا للأدلوجة، وتفكيكًا للترجمة التي أُريد لها أن تكون "تأصيلية"، فعملت على إفراغ الحداثة من مضمونها النقدي وهويتها التاريخية ودورها "العصياني" في مكافحة التخلف. كما تعرض القسم إلى تمييز علال الفاسي بين "العصرية" و"المعاصرة"، مُركّزًا على قراءة فكر عبد الله العروي بيثقافيًّا، ومحاولة نزع شططه الأيديولوجي، وإلى مقولة "الاستقلال الفلسفي" لدى ناصيف نصار، مُوضّحًا حدودها وآفاقها. ويُختم القسم بنقد الاستغراب.