20-نوفمبر-2015

بنظرة غارقة في التشاؤم، رسم الشاعر بورتريهًا كامل التفاصيل لما سيكون عليه رجل الثورة الأول

الشعراء لا يموتون. يذبحون، ويصلبون، وتُقطع أرجلهم وأيديهم من خلاف، وينفوا من الأرض لكنهم أحياء أبدًا، لقدّ اتهمهم الله – في كتابه – بالغواية، فمن يقدر عليهم؟ يعتبرون أنفسهم أشدّ من الموت، وأكثر مرونة واعتيادًا ورتابة في الحياة، أو كما قال الشاعر: "ليس جديدًا في الحياة أن نموت. وليس جديدًا – بالطبع – أن نعيش". 

يطرح عماد أبو صالح تساؤلات ضخمة، بلغة لم تتمرّد فقط على الديكتاتور والثوار، بل تمردت على الشِعر نفسه

هذا هو حال عماد أبو صالح – بعد ثورات القاهرة – وتلك عقيدته، ادّعى خلالهما إنه "كان نائمًا حين قامت الثورة"، لكنه – في الواقع – حاول أن يبدو نائمًا؛ إذ إنه تقمّص ذات الفيلسوف في قصيدة، وذات المؤرخ في قصيدة أخرى، محاولًا أن يتخذ مسافة بينه وبين الحدث.. لأنه – أو هكذا أحبّ أن يظهر – ليس ثائرًا، إنما نائمٌ يتبرَّأ من الشعر، ويقدم صورة منطقية لثورة ذات مشاهد ليس لها علاقة بالمنطق.  

لا تسأل "لماذا فشلت الثورة؟". عماد أبو صالح "كان نائمًا حين قامت الثورة"، لكنه فهم الدرس جدًا، وعرف الإجابة، فالذي يكتمل.. ينتهي. يقدم أبو صالح ملخصًا للديوان منذ الصفحة الأولى، فالعقيدة لديه تؤكد إن كلنا قابيل الذي قتل هابيل، ودفنه، ثم عاد شاعرًا بأن "يده تؤلمه" في إشارة إلى إن شاعرية الحدث وطغيانه وعدوانية الأخ الأكبر ستطارده، ستقضي عليه يومًا ما، ستدخله المصحة النفسية؛ فاليد التي ضربت لا أن تُضرَب، والأظافر التي تركت أثرها على اللحم البريء سيأتي يوم لتقصَف، أو تمتد إلى صاحبها.

شخِّص الشاعر الحالة بقصة أكثر عمقًا عن القتل منذ بدء التاريخ: "لي أخ واحد يصغرني بأعوام كثيرة. جاء خطئًا في أواخر عمر أمي. غلطة، كما كانت تقول، وهي تخبئ وجهها من الخجل. لا أذكر ماذا فعل في تلك السنين البعيدة، حتى دفعني لأن أصفعه بكل غلظة الأخ الكبير، لكنني أتذكر الدمعة الوحيدة التي سقطت من عينيه.. حارة وحرة كلؤلؤة.. هو نسى الأمر كله الآن ربما، لكن يدي لا تزال تؤلمني إلى اليوم. يبدو إن في كل عائلة، منذ بدء الخليقة، مشروع قابيل وهابيل".

يطرح الشاعر في ديوانه تساؤلات فلسفية ووجودية ضخمة بلغة لم تتمرّد فقط على الديكتاتور والثوار، إنما وصلت حدة تمردها إلى ذم الشِعر ذاته، قائلًا للشعراء المتقدمين على طريق الخطيئة: "أمامكم فرصة للهرب.. سيحولكم إلى كلاب.. تلهثون وراء خطواته.. اكتبوا روايات". 

في طريقه إلى ذم أشياء تخصه، يزيح جثث قيم أخرى ويهيل بالتراب عليها، يذم الحرية، والثورة، والأشجار، ويمدح الخطأ ويهوذا إمام الخاطئين، الخالد في اللعنة (لولاه ما كان مجد المسيح)، ويحتفي بالأرواح التي تنظر إلى ما آلت إليه الأمور بلا مبالاة وعدم اهتمام لا يليق بالأحداث، أو كما يقول:

تحية لليد
(أتوسل لله أن يحفظها
ولو في أجساد أعدائي)
التي لا تحترس من لسعة النار
تحية خاصة لك أنت يا يهوذا
يا إمام الخطائين
يا خالدًا في اللعنة
لولاك ما كان مجد المسيح.

يقترب أبو صالح من قلب ميدان التحرير، بينما "الثوَّار يشيعون جنازة الحرية":

كان نائماً حين قامت الثورة
لم يغادر سريره
رغم أنه سمع الهتافات الهادرة
من شبّاك غرفته
نام بعمق
كان وحيدًا في البيت
في الحي كله
لا ضجيج بائعين
لا صراخ أطفال
ولا نباح كلاب
وحيدٌ
وحرّ
بينما الثوّار هناك
يشيّعون جنازة الحرية.

ينام الشاعر وقت الثورة لأنه يؤمن أنه ما من شيء سيتغير

يدين جموع المتظاهرين الغاضبة، رغم إنه يؤيدهم، لكنه يعرف إن شيئًا لن يتغيَّر. يعتبر ما يجري في الشارع خطأ لا يغتفر، يعترض عليه بالنوم، أكبر إدانة –من وجهة نظره- للغاضبين، والقتلة، معتبرًا غفوته عن هذا المشهد الدمويّ أكثر المواقف حبًا للحياة. روحٌ نائمة تنظر إلى ما وصلت إليه الأحداث بلا مبالاة، وتسجل موقفها بهدوء. ومن بين ما يسجّله مشهد لـعجوز -ربما كان عضوًا في الحزب الوطني- أصبح ثائرًا بالصدفة، ودون أي إرادة منه: 

كان مكوَّمًا في ركن
قدماه حافيتان
وملابسه ممزقة
والدم يسيل من فمه
عجوز نحيل
لا يقوى
أصلًا
على الذهاب للحمام
جرفته الثورة إلى هنا
ليصبح ثائرًا رغم أنفه.

يجلد أبو صالح ظهور من خرجوا إلى الميادين، "يضاجعهم" في ركن من الحياة كأنه يضاجع التاريخ بقصائده في "ذم الثورة" التي استبدلت الديكتاتور بديكتاتور آخر، ورسمت خطًا جديدًا يسير عليه قطار الديكتاتور. الديكتاتور –هذه المرة– ليس حاكمًا، لكنه الثائر الذي ربط "الشال الفلسطيني" على أنفه تلطيفًا لرائحة الغاز:

يا إلهي
كم هو رائع
هذا الشاب هناك
يتقدم الصفوف
ويفتح صدره للرصاص
يعالج الجرحى
ويتنازل عن طعامه القليل 
للجوعى
كأنه نبي
أنا معجب به
إلى كل طفل
يحلم بأن يكون بطلًا
تعلّم منه
لتثور ضده
بنفس طريقته
حين يصبح ديكتاتور المستقبل.

بنظرة غارقة في التشاؤم، رسم الشاعر بورتريهًا كامل التفاصيل لما سيكون عليه رجل الثورة الأول، بالضبط كما رسم تفاصيل اللحظة الأولى له، حين كان شابًا يحلم، وينتظر هذه اللحظة تحديدًا.. ثم حين جاءت، هرب منها، إذا سألتموه: لماذا؟، سيجيب: لأن الشاعر الحقّ لا تخدعه الثورات المزيف ولا هتافات تجار النضال، وثوار البانجو، ولا ينحني أمام شوفونية الجماهير الغاضبة، وطمع الطامعين في كراسي الحكم، ثم يروي ما بقى من قصة "النقاء الثوري":  

وقف عاريًا
أمام عربة شرطة
أحرقتها الجموع الغاضبة
العربة نفسها 
التي ركبها
مقيد اليدين
حين كان شابًا
انتظر هذه اللحظة كثيرًا
لكن حين جاءت
لم يشعر بأي فرح
على العكس
فوجئ بحزن
ينساب ببطء
في كيانه كله
وقاوم رغبة حقيقية
في إطفاء ألسنة النار 
التي تأكل أغلى ذكرياته

لماذا لا يفتح عماد أبو صالح الطريق للديكتاتور لكي يقول رأيه فيما يجري؟ هو صاحب الكلمة الأخيرة، كان ثائرًا أمس، لفَّ الشوارع هاتفًا بسقوط رئيس راحل، رفع لافتات الثورة، لم يكن أقل من إله حتى دخل قصر الرئاسة. الشاعر تجاهل اسم "مبارك"، ولم يقل "25 يناير" صراحة بطول الديوان، فهو لا يثرثر عن رئيس بعينه، ولا ديكتاتور في حد ذاته. مبارك، الأسد، القذافي، بن علي، علي عبد الله صالح، كلهم متمرِّسون في العنف، والحكم، والديكتاتورية المفرطة، والشاعر يضع يده في أحشاء الديكتاتور لأنه – في الغالب – بلا دماغ. 

اقرأ/ي أيضًا:

صورة ضائعة مع وديع سعادة

علاء أحمد.. حفرتُ بئرًا في الهواء