28-ديسمبر-2015

ليس للسوري إلا الريح! (محمد زيات/أ.ف.ب/Getty)

لطالما اعتُبِر التنوع العرقي والاثني الذي يتميز به النسيج المجتمعي في سوريا من المميزات الخاصة لهذا البلد. لكن السنوات الخمس الماضية كانت كفيلة بجعل هذا التنوع أحد الأسباب الأساسية لانقسام سوريا سياسيًا ومن ثم تفرقة مكوناتها الدينية والعرقية جغرافيًا. فواقع الحال يقول إن سوريا التي عرفناها سابقًا لم يعد لها وجود حاليًا. ورغم أن الحرب هجرت وخلفت أضرارها على معظم مكونات المجتمع السوري لكن طريق الخلاص منها لم يكن واحدًا للجميع. فالانتماء الديني هو من يحدد وجهة النجاة. وطبعًا ساعد في هذا الأمر سياسة بعض الدول التي عمدت كل واحدة منها سواء بشكل معلن أو مبطن إلى إيلاء أهمية لفئة من السوريين أكثر من غيرهم بناء على انتمائهم الديني بما يخدم الأجندة السياسية الخاصة بها. الأمر الذي أدى خلال سنوات الثورة الخمس إلى تشكيل ما يمكن أن نطلق عليه اسم "كاتالوغ النزوح أو اللجوء الطائفي".

المسلمون في تركيا

مع بداية ظهور الموجة الأولى للجوء في سوريا كانت تركيا حاضرة في المشهد وبقوة. فكانت ملاذًا للسوريين القادمين من المدن الشمالية كحلب وحماه والرقة وإدلب والتي تُعرف بغالبيتها المسلمة. ولم يكن الموقع الجغرافي لتركيا وحدودها المشتركة مع الشمال السوري هو سبب التوجه إليها فقط، بل لعبت السياسة الخارجية الانتقائية لتركيا المتمثلة بالدفاع عن حقوق المسلمين أينما وجدوا دورًا مهمًا في ذلك. صحيح أن تركيا دولة علمانية القوانين. ولكنها تكاد تكون أكثر دولة إسلامية في العالم. حيث يشكل المسلمون فيها النسبة الأكبر مقارنة ببقية الأديان. كما عمد حزب العدالة والتنمية ومنذ وصوله للحكم عام 2002 على تقليص العلمانية الأتاتوركية تمهيدًا لتحقيق حلم قيادة العالم الإسلامي، كما يعتقد كثيرون. وكان لتصريح رجب طيب أردوغان الشهير في بداية الثورة "لا نريد أن نشهد مجزرة جديدة في مدينة حماه" أثر عميق لدى مسلمي سوريا. فهو بالإضافة للقيمة الإنسانية التي يحملها من حيث مناهضة العنف الذي يرتكبه النظام السوري بحق شعبه، كان أيضًا بمثابة رسالة تعاطف مع الإخوان المسلمين كتنظيم وما لحق بهم على يد الأسد الأب في ثمانينيات القرن الماضي.

وفرت البيئة المحافظة دينيًا لمدن الجنوب التركي كغازي عنتاب وكيليس والعثمانية حاضنة اجتماعية ودينية للاجئين السوريين

التعاطف التركي مع قضايا اضطهاد المسلمين عامة ليس بجديد. فمعروف عن تركيا تأييدها للدول والحركات الإسلامية المعادية للغرب. فهي التي ناصرت مسلمي بورما وماتعرضوا له من معاناة وتهجير. والداعم الأكبر للشرعية وحكم الإخوان في مصر. وهي التي استقبلت الرئيس السوداني عمر البشير رغم صدور مذكرة توقيف بحقه من محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكابه انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. حتى أن رجب طيب أردوغان صرخ وقتها أن البشير مسلم والمسلمون لا يمكن أن يرتكبوا المجازر. بالمحصلة مايُفهم من هذه السياسات الخارجية لتركيا هو أنها تفضّل المسلمين.

بالإضافة لذلك وفرت البيئة المحافظة دينيًا لمدن الجنوب التركي كغازي عنتاب وكيليس والعثمانية حاضنة اجتماعية ودينية للاجئين السوريين القادمين من الشمال السوري المحافظ أيضًا والذين قوبلوا بتعاطف كبير من الأتراك. ويرى كثير من هؤلاء في العيش بتركيا حلًا لمشكلة اختلاف الدين والعادات التي يخشون منها على مستقبل أولادهم في حال انتقلوا للعيش في إحدى الدول الأوروبية ذات الأغلبية المسيحية. لن ننسى هنا أن امتناع دول الخليج وعلى رأسها السعودية عن احتضان اللاجئين ساهم في تعزيز ولاء السوريين السنّة لتركيا ولرئيسها الذي يعتبره الكثيرون بطلًا وقائدًا للعالم الإسلامي.

المسيحيون.. بين لبنان وفرنسا

يشكل المسيحيون في سورية نسبة تصل إلى 10% تقريبًا من مجموع السكان إلا أن البعض يقول إن هذه النسبة أكثر بكثير من العدد الحقيقي. وتختلف كثافة انتشارهم من منطقة إلى أخرى، إذ يقطنون في مناطق عدة من دمشق وحمص وحلب والجزيرة الفراتية في الحسكة واللاذقية وبعض المناطق في درعا وطرطوس.

ومع التعقيد الذي سيطر على مشهد الثورة السورية بعد أشهر من انطلاقها، اعترى المسيحيون مخاوف كثيرة على مصيرهم لا سيما بعد تكرار حوادث خطف رجال دين مسيحيين والاعتداء على الكنائس. فبحسب إحصائية للمنظمة السورية لحقوق الإنسان تم تدمير نحو خمس وستين كنيسة خلال الأعمال العسكرية في سورية. وكان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الخطر الأشد ضراوة على أمن ومستقبل المسيحيين. الأمر الذي دفع الكثير منهم في الشمال الشرقي (الحسكة والقامشلي) للنزوح المؤقت إما للعاصمة دمشق أو لبنان. ورغم قرب هاتين المدينتين من تركيا إلا أن خيار اللجوء إليها لم يكن مطروحًا لدى غالبية المسيحيين. فمذبحة الأرمن التي ارتكبها الأتراك بحق قرابة المليون أرمني إضافةً للعديد من المسيحيين الأشوريين والسريان كانت كفيلة بأن تجعلهم يستثنون سياسة الباب المفتوح لتركيا من خياراتهم.

هولاند أظهر رغبة بلاده في استضافة اللاجئين السوريين المسيحيين فقط!

فرنسا التي تعتبر من أكثر الدول الأوروبية خوفًا على مصير مسيحيي الشرق الأوسط بشكل عام حاولت أن تستغل سيطرة الغالبية المسلمة على المشهد الثوري بداية ومن ثم الأعمال العسكرية بين النظام والمعارضة لاحقًا لتشجيع المسيحيين على الهجرة إليها. حيث أعرب الرئيس الفرنسي (العلماني!) فرنسوا هولاند ولأكثر من مرة عن استعداد بلاده لاستقبال مسيحيي سورية والقيام بكل ما يلزم من أجل تسريع اندماجهم في المجتمع. لكن السياسة الفرنسية المطالبة بحماية الأقلية المسيحية تعرضت للإحراج بسبب موقف الأغلبية المسيحية المؤيد لنظام الأسد سواء كأفراد أو مرجعيات دينية. بيد أن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة ساهم في مساعدة فرنسا على إيجاد المسوّغ المقنع لخوفها على المسيحيين، نافية ما يتردد عن تنفيذها لخطة تهدف لإفراغ سوريا والشرق الأوسط من المسيحيين والقضاء على تنوعه.

وصل عدد المسيحيين الهاربين من سوريا منذ اندلاع الثورة وحتى الآن لحوالي ثلاثمائة ألف مسيحي. منهم من استطاع الوصول لفرنسا ومنهم من يقيم في لبنان.

الدورز.. الخيارات الصعبة

كان لابد أن يكون للدروز حصة في تغريبة السوريين في بقاع الدنيا وإن أتت متأخرة. واذا أردنا أن نحدد قياسًا لهجرة الطوائف فكلما كانت الطائفة أقل عددًا كلما كانت وجهاتها محدودة جغرافيًا. وهذا عائد لأسباب قد ترتبط بالطبيعة الاجتماعية لأبناء الطائفة الذين يميلون للتعايش المكاني مع أبناء جلدتهم مراعاة لعادات وتقاليد الجماعة، أو خوفًا من عمليات اندماج قد تطمس هويتهم الدينية في أماكن تحكمها أكثرية دينية أخرى. والدروز كغيرهم من الأقليات عاشوا مؤخرًا أوقاتًا عصيبة في ظل الأزمة التي سببها النظام، وتنامي التنظيمات الجهادية التي لا تعترف بالتعدد والاختلاف. ولكن ما الذي يحدد وجهة الدروز؟ العقيدة الدينية أم الانتماء السياسي؟

لا يفضل معظم الدروز النزوح إلى تركيا وذلك بسبب مواقف سياسية لجزء كبير منهم

بعد دخول جبهة النصرة لإدلب حدثت موجة نزوح لآلاف من دروز قرى جبل السماق باتجاه الجنوب السوري حيث دمشق والسويداء. ورغم العرض الذي قدمته تركيا لهم بنقلهم إلى أراضيها وتجهيز مخيمات خاصة بهم لكنهم رفضوا. ومن لم ينزح جنوبًا فضّل البقاء في بيته وعدم الذهاب لتركيا. حساسية الدروز تجاه الإقامة بتركيا ليست نابعة عن اختلاف بالمذاهب الدينية. فتركيا دولة علمانية القوانين وتكفل حرية ممارسة الشعائر لغير المسلمين. لكن الأمر يتعلق بالمواقف السياسية. فمعظم دروز سوريا موالون للنظام ويعتبرون تركيا سببًا رئيسًا في خراب سوريا.

ورغم صلات القربى التي تربط الكثير من دروز جبل الشوف اللبناني بدروز سوريا لكن هذا الأمر قد لا يكون بالضرورة محفزًا للبعض للاتجاه إليه. فدروز سوريا غير دروز لبنان وميولهم السياسية ليست واحدة. خصوصًا وأن وليد جنبلاط أحد أبرز زعماء الطائفة من المعارضين لنظام الأسد. وكان مؤخرًا قد وجه للنظام اتهامًا باغتيال الشيخ وحيد البلعوس أحد شيوخ الكرامة ودعا دروز جبل العرب إلى عدم التعويل على نظام الأسد والدخول بحرب إلى جانبه. وإلى ضرورة المصالحة مع العشائر السنية في الجنوب، الأمر الذي أحدث انقسامات داخل الطائفة بين مؤيد للنظام ومعارض له.

أما خيار الاتجاه صوب قرى الجولان في الداخل الإسرائيلي فهو خيار مرفوض إسرائيليًا، حيث أبدت إسرائيل قلقها من موجات النزوح الجماعي الدرزية باتجاه القرى التي تحتلها في هضبة الجولان. يخضع كل خيار من خيارات النزوح بالنسبة للدروز للعديد من الاحتمالات والتعقيدات. ولكن بالنسبة للكثيرين منهم (الحياديين تحديدًا) يبقى خيار التوجه إلى لبنان أفضل من الإقامة على الحدود في المخيمات التركية أو التوجه لقرى الجولان المحتلة إسرائيليًا.

اقرأ/ي أيضًا:
السويداء.. تاريخ طويل يستريح
الحسكة التي في خاطري