16-يوليو-2023
لوحة لـ فاكلاف مينتشيك/ التشيك

لوحة لـ فاكلاف مينتشيك/ التشيك

حوار داخلي

التقت سليم في القهوة الركنية بدبي مارينا. بعد دقائق، أنصتت راما جيدًا إلى جسمها، انبثق أول برعم من بين أصابع قدميها، ثم تفتَّح الياسمين على ساقيها وعرَّش حتى صدرها ورقبتها السمراء، من رحمها أشرقت زهور اللافندر ممتشقة، ترنَّحت شقائق النعمان على شفتيها المعتدلتين، فعضت بعفوية على طرف السفلى.

شعرت راما بالنرجس البري يرتقي من طين جسمها الأهيف، فالزنبق الأزرق والزعفران البنفسجي، علت إيريس وخمائل الرودودندرون. جسمها بأكمله خارطة تضم سهول كاستيلوتشيو الإيطالية وحقول فالينسول الفرنسية حتى وادي يامتانغ في الهند.

تقرأ سليم بخفة، تلتقط توسع حدقات عينيه، حركات يديه، جلسته، نبرة صوته. أتاها صوتٌ بعيد، مألوف وغريب، فسكنت جميع أزهارها تصغي إلى تفجر الينبوع في داخله.

 

دولاب الهامستر

في كل يوم تتسابق العداءة، تنطلق، تركض، تلف، تسرع، تخف، تصعد وتنزل، تقفز فوق ظلالها، تهرب من أشباحها، تخاف، ترتعد، تتعثر، تسقط، تزحف، تدور وتدور.

في كل يوم تجري العداءة نحو الشرق وتجري نحو الغرب، تمضي إلى أقصى الحدود. تدلف إلى الأزقة والشوارع، تدخل في السراديب وتخرج من الأسطح، تركض حتى تنزف قدماها ويغمى عليها.

تستيقظ وتنهض، تجر ذيلها الطويل من ورائها وتعود إلى الدولاب، تهرول وتركض وتدور.

 

الدفن

عندما فتحت عينيها وأبصرت راعَ رشا تنفسها، إذًا "من الميت؟". جميع مرايا المنزل مغطاة بالستائر، لكن الألواح الزجاجية تعكس صورة امرأة هزيلة شديدة الشحوب، ترتدي الأسود من رأسها حتى أخمص قدميها. ففي فترة الحداد تختلط بعض الأمور على العاشقين المثاليين، إلى حدٍ لا يدركون فيه من رحل ومن بقي .. ما الذي اندثر وما الذي ثبت.

امتد الحداد لسنوات دون جنازة وبلا دفن.

في الليلة الماضية جاءها صوتٌ، مثل جان دارك، واضحٌ ومباشرٌ فارتعدت أوصالها.

"لكل موقف ثمن، وبعض الأثمان تتطلب سفك الدماء، فهل أنت مستعدة؟".

ذبحته، ثم حفرت حفرة كبيرة رمت فيها جثته وصور ودفتر، ردمتها بالتراب جيدًا ورشت فوق كومة القبر الملحَ بكثرة.  

 

الكسوف الجائر

أصيص الورد الذي أهديتني إياه، تتجدد زهوره البرتقالية منذ شهر مارس. لا تكاد تذبل زهرة وتسقط هشة حتى تظهر أخرى وتتفتح بتلاتها حتى أقصاها. يتباين لونها المشرق مع الأوراق الخشنة الداكنة، والأوراق العصارية الصغيرة منها والشفافة يلتمع قصبها في حضور الضوء وفي عينيّ المظلمتين. 

كلما أدرت الزهر نحوي لأبتهج برهافته، التفت مرة أخرى نحو النافذة، دون أن يشعر بالسأم من الاعتراف إلى كاهن السماء. في حين أن بتلات جسمي الأرجوانية الكروكسية، وعودي النحيل، وأوراق روحي الخيطية الخضراء، مطبقة كلها على نفسها، مذ أعلنت كسوفك الجائر.  

 

ماستر السَّمُّ

هذا السَّمُّ من نوع خاص، من نوع لم تعرفه المخابر أو الصيدليات ولا حتى دكاكين العطارين. يحضَّر في الشوارع الخلفية والأماكن المظلمة بعناية فائقة لا مثيل لها.

لقد أتقنَ الوصفة ومعايير المكونات لدرجة استحق لقب "الماستر"، فأي مقدار زائد من أي مكون، ولو كان ضئيلًا، يفسد العملية ويكشفها على الملأ.

واظب على سكب السَّم لها وفقًا لنظامه الداخلي، فلم يثر أدنى شك ولا سيما وأن أعراضه محتملة؛ أوجاع الرأس، آلام الحلق، انقباضات المعدة. لكن بمرور الأعوام بدأت ملامحها وطباعها يتغيران، وكأن خلايا جسمها صارت تنسخ عنه حمضه النووي وجينومه الخاص، حتى قِيل كم باتا يتشابهان.

المكون السري والرئيس لهذا السَّم هو الشعور بالذنب