لا تبدو الفانتازيا في المجموعة القصصية "جامع الأحلام الأرجوانية" (دار المعقدين 2019، ترجمة فاطمة نعيمي)، للكاتب الصربيّ زوران جيفكوفيتش، ذات جدوى. وإنّما، على العكس من ذلك تمامًا، بدت حملًا زائدًا أرهق القصص المُحمَّلة أساسًا، حدّ التخمة، بأفكار وتحليلات ونظريات شتّى، برفقة نوعٍ من الاستشراف مارسهُ جيفكوفيتش في قصصه هذه التي لا نعرف السبب وراء حشدها بالفانتازيا بشكلٍ بدت فيه فوضوية وغير منظَّمة أيضًا.

يُمكن إحالة السبب إلى وجود فكرة تسبق الحكاية عند المؤرّخ الصربيّ، بمعنى أنّ الفكرة هنا هي الأصل، وأنّ الحكاية هي ما تحتاجهُ الفكرة لكي تَطرَح نفسها، وتأخذ حيّزها من الوجود. ولأنّ الفنتازيا مجال مفتوح على أقصاه، ألبسها مؤلّف "المكتبة" لحكاياته ظنًّا منه ربّما أنّه لو لم تشفع للقصّة عند القارئ حبكتها وما ترويه، فقد تفعل ذلك الفكرة المُضمّنة داخلها، وإن فشلت الفكرة، فقد تفعل ذلك الفانتازيا التي يراها البعض، بما هي مزيج بين الغرابة والتخييل أيضًا، أمرًا كافيًا لشدّ انتباه القارئ.

بدت الفانتازيا في قصص الكاتب الصربيّ زوران جيفكوفيتش حملًا زائدًا أرهق القصص المُحمَّلة أساسًا بأفكار وتحليلات ونظريات شتّى

اقرأ/ي أيضًا: غوستاف يانوش في "كافكا قال لي".. تظهير صورة الكاتب الغامض

المفارقة أنّ الفكرة ذاتها أنقذت بعض القصص من المصير الذي لاقته بقية القصص التي بدت فارغةً من المعنى والمغزى والفكرة. رغم ذلك، قد تبدو هذه القصص بالنسبة للبعض حكايات مسلّية، ولكنها ليست ممتعة قطعًا. ولربّما من الممكن وصفها بجملةٍ وردت في إحدى قصص المجموعة: "لا ينبغي الانغماس في الملذّات كي لا تفقد سحرها". جيفكوفيتش فعل العكس تمامًا هنا؛ أفرط في التخييل وأمدّ قصصه بالفانتازيا بسخاءٍ أفقدها معناها وسحرها.

إذًا، يُحيل ما ذُكر آنفًا إلى فكرة أنّ الكاتب الصربيّ يكتب ضمن وصفة محدّدة، لا تحمل في متنها المتعة أو التنويع، وإن كانت الانطباعات أو الظنّ عكس ذلك، ولكن هل هناك فعليًا مكان للظنّ في الأدب؟ ندع السؤال جانبًا ونعود إلى وصفة جيفكوفيتش التي تتحمّل مسؤولية الشكل الذي جاءت به غالبية قصص المجموعة؛ باهتة ومكرّرة من حيث المضمون، تُراوح في المكان المُحدّد لها بشكلٍ يجعل من فكرة أن تُغطّي الفانتازيا، والأحداث ما فوق الواقعية، هفواتها أمرًا مستحيلًا باعتبار أنّ الأخيرة ليست الأصل أو الأساس الذي قامت عليه القصص، وإنّما مجرّد قالب. ولو افترضنا جدلًا أنّ الفانتازيا أصل وأساس القصص، فإنّها في المقابل لا تستطيع أن تشفع لـ 12 قصّة معًا، في آنٍ واحد.

الحديث عن غالبية يعني بالضرورة وجود استثناءات داخل المجموعة القصصية، وإن كانت قليلة أصلًا، 3 قصص فقط من أصل 12 قصّة. والحقيقة أنّ هذه القصص الناجية إلى حدٍّ ما من وصفة جيفكوفيتش، فرضت نفسها كاستثناء من خلال وضوح فكرتها ومدى انسجامها مع الحكاية، وليس من خلال وجود فكرة في مضمونها فقط. بالإضافة إلى أنّها جاءت مقسّمة بحيث تُكمل بعضها البعض، وسلوكها مسارًا أودى بها إلى تنويعٍ تصدّى للتكرار، ووجود محاولات لمنحها أصواتًا خاصّة بشخصياتها، بعكس بقية القصص المحكومة شخصياتها بصوتٍ واحد ونبرة واحدة.

كتب زوران جيفكوفيتش في القصّة الأولى المستثناة "جامع الأيام" حكاية غايتها مناقشة نوع العلاقة بين الإنسان وماضيه. يُسلِّع الكاتب الصربيّ الماضي في هذه القصّة بحيث يأخذ شكلًا مادّيًا قابلًا للشراء أو المقايضة، وأن بـ "كعكة" تُمنح مقابل تنازل المشتري على يومٍ واحد للبائع شرط أن يكون ماضيًا. المفارقة في القصّة أنّ الكعكة تجعل من يتناولها مُدمنًا عليها بحيث تدفعهُ لطلب المزيد مقابل التخلّص من ماضيه يومًا وراء آخر، وهكذا إلى ينتهي به الحال كائنًا غير مرئيّ، كأنّ الإنسان إنّ تخلّص من ماضيه، فإنّما يتخلّص مما يشكّله ويبنيه أيضًا، وما يكون دونهُ فارغًا تمامًا، ودون معنى.

الفراغ الذي تُحيل إليه هذه القصّة يحضر في القصّة الثانية "جامع الأحلام". فالقالب تقريبًا نفسه، والفرق أنّ الأيام المُسلَّعة هناك، استبدلت هنا بالأحلام التي يراها من يسعى للحصول عليها نوعًا من الفنّ. إنّها، بهذا المعنى، تجارة تُهدِّد خصوصية الفرد وتسلّعها كذلك تمهيدًا لنزع حميميته عنه.

يُسلِّع الكاتب الصربيّ زوران جيفكوفيتش الماضي بحيث يأخذ شكلًا مادّيًا قابلًا للشراء أو المقايضة

ولأنّ هذه القصص المُستثناة تُكمِّل بعضها بعضًا، دون أن يكون الأمر مقصودًا بالضرورة، تبدأ القصّة الثالثة "جامع القصص" من المكان الذي تُحيل إليه "جامع الأحلام"، أي عند انتهاك خصوصية الإنسان وانتزاعه من حميميته وتعريته أمام الآخرين، إذ إنّ القصّة تنّبه إلى واقعٍ باتت الحياة عنده أقلّ خصوصية بحيث باتت تتحكّم ببشره فكرة البحث عن اعترافٍ خارجيّ من خلال مشاركة التفاصيل اليومية المُعاشة ونزعها من إطار الخصوصية، مما يجعل العالم بأكمله إزاء مأزقٍ وأزمات يصعب تقويم ورصد عواقبها المُحتملة، مصدرها فكرة أو مصطلح "اقتصاد الرغبة"، وطمع الآخرين، أفراد ومؤسّسات، إلى جمع بيانات الناس من خلال التفاصيل الملقاة هنا أو هناك.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إليوت إلى إيميلي هيل.. حرب بين ميتَين

لعلّ هذه القصص الثلاث فقط هي كلّ ما يُمكن الخروج به من مجموعة تتراكم فيها الفانتازيا بشكلٍ أفقدها سحرها وجرّدها من خصوصيتها، فبدت مجرّد تخييلٍ لا معنى له، يُذكّر بحكايات الجدّة، لكنّه فعليًا لا يملك وقعها ولا سحرها أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمارجي و"زهرة القيامة".. عن الترجمة لا الرواية

عناوين أدبية أُخذت من آيات قرآنية