12-ديسمبر-2018

بول غوغان/ فرنسا

أكتب الآن لأني بعيد جدًا عن المكان الذي تركته قبل دقائق.

يقول فالتر بنيامين، وهذه القولة بالذات تستحوذ على فكري منذ أيام، أن وراء كل فاشية ثورة فاشلة. قد يغضب البعض من هذا التسطيح المتعمد لفكرة بنيامين، غير أن وجودها الفعلي في هذه اللحظة بالذات مقرون جدليًا بقولة نيتشه الشهيرة: "إذا ما ذهبت للنساء فلا تنسَ السوط".

يتجسد هذا الزوج الديالكتيكي الآن أكثر ميثولوجية، أو كما يرسمه الاعتقاد الإسلامي، أحس حرفيًا أن ماردين قدسيين يقبعان على كتفي، ذات اليمين وذات الشمال، أحدهما أبولون الحالم سيد العقل، والآخر ديونيز الراقص سيد الجسد. الحضارة واللا حضارة في آن واحد تحضران، تلك هي المعضلة الوجودية التي يضعك فيها وجود امرأة مثلها في مكانها ذاك بالذات.

لوهلة كنت أظن أن السيجارة التي سقطت من شفتي شأن ميكانيكي وارد، إلى أن انتابتني ذات الرهبة العميقة التي ثقبت صدري عيونا عسلية، تملكتني ذات الفوضى التي كنت أمارس معها كلبيتي الأيديولوجية، سقطت قوانين العالم وتوقفت اللحظة للحظة.

جلست، قابلتني، لم تراني لأن المقهى كان مكتظًا، لم أر صخب المقهى لأني كنت أراها وحدها، "الصخب يسمع ولا يرى!" يقول متحاذق من قرائي الآن، غير أن واقعة كهاته دائمًا تكون مرفقة بحالة صمم كرونيكي، وكأن انفجار قنبلة حصل للتو على بعد خطوات من مجلسي، ولقد حصل فعلا مع قدومها.

"لقد أتت المرأة الخارقة" قلت هامسًا، مستعيرًا كلمات سالفادور دالي، أتت مجددًا، بنفس الارتياب الطفيف الذي يعلو شفتيها، ونفس الإصرار المأساوي لإذلال كل من تقابله، "مسلحة بنفس أسلحتها البدائية المبتذلة" قلت، وكنت قابلتها البارحة، ويوم الجمعة كذلك، وقبل شهر. حائر إذا ما أتيت لأراها مجددًا، لأعرفها أكثر، أخضعها ساديتي المعرفية والوضعية جدًا.

استطعت في المرة السابقة أن أعرف اسمها، طبعًا بعد أن سمعت شخصًا، لا أذكره، يناديها بـ.....، بماذا؟ لا أذكر حقًا. لكني أذكر كذلك، اعتمدي ذلك ليلتها لاستجداء تعاطف كل محركات البحث لإيجاد أي وصف، ولو بسيطًا، لما تخفيه من هوية.

ألا يكفي أنها جالسة بثوبها الأزرق هناك، والأزرق لوني المفضل. تبتسم، ربما، صدفة كان ذلك اختيارها الصباحي، أو ربما نفذت كل أثوابها النظيفة إلا من سترة الجينز تلك وذلك السروال الضيق، أو ربما هي تعلم ما أفضل، أو شخص ما، يعرفني (وأعرفه جدًا) حبك هذه المزحة الكونية السمجة.. خراء! أنا أغرق الآن في اعصار بارانويا جامح..

طوطو يضع القهوة أمامي مبتسما، أفتح علبة المارفيل الجديدة وأسترسل في الكتابة.

كان محقًا ذلك الشاعر حين كتب: "كلما قابلت أنثى رأيت مأساة تمشي على قدمين"، حتما كان يلامس حينها أطراف المفارقة الجدلية التي تحدثت عنها فيما سبق، حتما كانت تنتابه نفس الأحاسيس المتضاربة والعنيفة التي سكنتني في تلك اللحظة.

أذكر أنني فكرت حينها بما أرغبه فيها، قد يتخيل البعض صورًا غزلية أكثر شاعرية، وقد يذهب البعض الآخر مذهبًا أكثر إباحية في تصور سخونة قبلة أو جسدين عاريين يحضنان حمى الشبق، غير أن الشيء الوحيد الذي اشتهيته كان صفعة مدوية على خدها، هي الأكثر براءة، ألم موضوعي خال من أي دنس أخلاقي مسبق.

هنا بالذات تعود قولة فالتر بنيامين كنقيض لسوط نيتشه الذي كدت أمسك مقبضه البارد آنذاك، ولأذكر أيضًا أنني أنا من خلقها، خلقت الأنثى النقيض، أنا السلطة، القوة التي خلقت ردة الفعل الآدمية تلك، بشكل يفشل كل قدراتي الاجتماعية لاستدراجها كحلم ليتجسد واقعيًا، تترك وأترك المجال للفاشية المتجذرة، للقوة المادية أن تعبر عن صراعية العلاقة، علاقة الشاب الذكر الثقافي، بنقيضه الأنثى الجميلة التي تجلس قبالته بالمقهى.

في هذه اللحظة بالذات طوطو ينهي دوامه كنادل ويهم بالمغادرة، أغادر بعده عائدًا إلى مقر العمل، موقنًا أنني خارج لتوي من قصة حب يمكن، بقليل من الشاعرية، استحضار شبح عبد الرحمن منيف ووصفها بالمجوسية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار على الهامش

نوم عميق