تبدو فكرة متابعة قوائم الكتب الأكثر قراءة والأكثر مبيعًا مثيرة للاهتمام، من جهة انتشارها بشكلٍ جنونيّ على المواقع الإلكترونية مع حلول نهاية كلّ عام، وحضورها عند أي بحث بسيط على غوغل.

المدهش حقًا أنها متشابهة، بل إن بعضها أُخذ من قوائم كُتبت سابقًا، مع إضافة بعض التوابل من تغيير في المعلومات وشقلبتها، لتشويه حتمية التشابه. من غير المعقول قراءةُ كتابٍ واحد من أشخاص مختلفين بالطريقة ذاتها، دون أن يخلق جدلًا أو قراءات متعددة. الأمر الذي دفعني للتفكير بطبيعة تلك القوائم، والتي تحتوي حتمًا على الروايات، وكأننا حصرنا كلمة كتاب بالأعمال الأدبية، زد على ذلك أنّ القوائم تُخصَصُ للروايات المترجمة، الأمريكية منها على وجه الخصوص، وكأن من وضع القوائم يريد القول ما الذي يُقرأ في الولايات المتحدة، وإن كانت اهتمامات صاحب القائمة أوسع سيأتينا بروايات أوروبية.

هناك عقدة نقص سائدة عربيًا أمام الكتب المترجمة، بالأخص الروايات

من الجانب ذاته، وعن المحتوى والمضمون، نرى بأن الرواية العربية لا تحظى بحقّ الحضور في القوائم. أيّ أن تضمها لائحةُ عناوين للأعمال وأسماء الكتب العربية التي همّ القراء بها خلال هذا العام، وبالتالي، إذ قلّ وجود قائمة نصائح تستحق الاهتمام للرواية، فإنّ الكتب البحثية والدراسات الثقافية الاجتماعية والسياسية لن تكون إلا في عداد المفقودات حتى أجلٍ غير مسمى.

اقرأ/ي أيضًا: قارئٌ منفي وإستراتيجياته

تساهم هذه الآليات في الإبقاء على نسبة قراءة الرواية العربية متدنية أمام النسب التي تحصل عليها الروايات المترجمة والروايات الحاصلة على جوائز. ما يطرح تساؤلًا أصبحت الإجابة عليه ضرورية، بخصوص تهميش الروايات، والكتب العربية بشكل عام، من قبل القرّاء أنفسهم.

ثمة ما يدلّ على عقدة نقص متفاقمة آن أوان الاعتراف بها، نراها عند مُسوِقيْ ومُتلقِيْ الكتب العربية أمام كل ما هو مترجم، حيث إن الطلب عليه آخذٌ بالزيادة على الدوام، على الرغم من أن تلك الإصدارات قد لا تكون مهمة أو جديرة بالقراءة، كونها تنتج أساسًا ضمن منطق صناعة استهلاكية تسعى إلى الأكثر مبيعًا، وعلى من يعيش في الغرب أن يرى حضورها الفائق في محطات القطارات وأكشاك الكتب.

يستوجب منطق القراءة الاستهلاكي السائد نقدًا قاسيًا. فمن قال إن قراءة أي كتاب هي قراءة؟ ألا يكون ذلك أحيانًا تسليةً؟ ألا يتشابه في حالات كثيرة، خصوصًا "الأكثر مبيعًا"، مع مشاهدة المسلسلات التلفزيونية الرائجة؟

يستسهل القارئ الاهتمام بأشياء من هذا القبيل، ويرضى بتناولها طوال الوقت، لأنها مدعومة بدعاية كبيرة مقنعة ومغرية، دون الاعتراف بأنّ ما أسرف عليه وقته لا يساهم في تشكيل وعي أو اتساع أفقٍ، وبالتالي، فإنّ القراءة في هذا الباب تتخلى عن كونها فعلًا نقديًا، أو معرفيًا، لتصبح ضربًا طائشًا من ضروب الاستهلاك.

القراءة الرائجة بحاجة إلى نقد، فأن تقرأ يعني أن تعرف، أن تفكر، أن تبحث، دون التخلي عن شروط المتعة بالطبع، لكنّ ما يجري هو تتبع حكايات بدافع الفضول، أو مجاراة السياق الذي نرغم على التواجد فيه من خلال وسائل التواصل والعلاقات الشخصية التي باتت مرايا تعكس إرادة السوق. لنسأل: من قال إن الكتاب الذي سررنا بقراءته سيعيش معنا بعد الانتهاء منه؟ هل ساهمت قراءته في سد ثغرات الجهل بأمر أو قضية أو مسألة؟ هل غيرت من معتقدات وأفكار سابقة لدينا؟ هل رفعت قيمة أفكار جديدة؟

في بحثنا عن الخطّ الفاصل بين قراءة التسلية والقراءة التي تحمل مشروعًا معرفيًا، لا نلقي باللوم على أصحاب الاتجاه الأول، فمن حقهم الانغماس في روايات شيقة، ذات حبكات مثيرة، بطابع رومانسي أو بوليسي أو فانتازي، لكنها حين تتحوّل إلى قائمة بعنوان "الأكثر قراءة" يصبح هناك نوع من التشويش، بسلطة الرواج والانتشار على القراءة الأخرى، فلا نعود نميّز بين جودة أعمال باولو كويلو وإمبيرتو إيكو مثلًا، ويمتد الأمر ليصبح تزويرًا مع الوقت، لأنّ الأكثر انتشارًا يمتلك قوة لن تقّل عن قوة المنتصر، وقديًما قيل المنتصرون يكتبون التاريخ. هنا، لدينا منتصر يكتب التاريخ والواقع معًا.

لا يمكن أن نعتبر قراءة الروايات قراءة منتجة، فالثقافة لا تصنعها الأعمال الأدبية عمومًا، بل الأعمال الفكرية والنقدية والتاريخية والعلمية... إلخ. ورغم ذلك، فإن تجاهلنا للأعمال الروائية الكلاسيكية وركضنا لاهثين وراء الأعمال الجديدة تفقد الإنسان معرفة الأساسات الأولى من جهة، وتسلبه القدرة على المقارنة والنقد من جهة أخرى، فالجديد الرائج رائج بسبب جوائز أو قوائم "الأكثر قراءة"، فيما الأعمال الخالدة خالدة دون تدخلات السوق أو المكرمين.

من الملاحظ أن القراءة دخلت سباقًا في الكمّ، فالقارئ الحقيقي بمعايير اليوم هو من يقرأ أكثر دون أهمية لما يقرأه. وتمّ تفريغ القراءة من معناها كفعل فكري منتج، فمثلًا لم يقرأ الفلاسفة والكتّاب العظماء الكتب كلها بمقدار ما كانوا يعرفون ما الذي تجب قراءته. أي أنهم ركزوا على النوع. وهنا يحضرني قول لعباس محمود العقاد اعتبر فيه أن قراءة كتاب واحد لأكثر من مرة أفضل من قراءة الكثير من الكتب.

الجديد الرائج رائج بسبب جوائز أو قوائم "الأكثر قراءة"، فيما الأعمال الخالدة خالدة دون تدخلات السوق أو المكرمين

من بين ما تفعله قراءة التسلية أنها تركز على الأحياء، راميةً بمنجزات الموتى إلى التجاهل والنسيان. لهذا تغدو قراءة الأعمال الكاملة نوعًا من المقاومة لهذه الآلية، فأعمال من فارقوا الحياة بعد أن اكتملت صارت رحلة تامة الأركان، تضعنا في خضم ما شغل مؤلفًا من البداية إلى النهاية، بحيث نستطيع أن نعاين حركة أفكاره وتطورها، الأمر الذي يدرّب فينا ملكة النقد والتحليل، بالتوازي مع الإبحار في فضاء من المعلومات والأفكار. على هذا النحو، يخلق القارئ سياسةً مقاومة لتهميش أصحاب المشاريع الكبرى.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا ستقرأ في عطلة الميلاد؟ 6 روايات مناسبة للإجازة

الضروري اليوم تغيير بوصلة القراءة ومحاولة بناء ذهنية نقدية لمحاكمة هذا الواقع، ولن يكون ذلك بالاعتماد على قوائم موضوعة جزافًا، ومتداولة بحكم انتشارها على وسائل التواصل الاجتماعي وحسب، بل بأن يضع القارئ نصب عينيه مجموعة من الأسئلة التي تتصل بما يريد أن يلمّ به ويعرفه، من خلال الاتصال مع سياقه الخاص اجتماعيًا، ومع ذائقته الجمالية، من أجل التغلب على الهشاشة والتسطيح وتلقف كل ما بات سهلًا. وحتى ذلك الحين سيكون علينا رفض هذه القوائم، وعدم السماح بأن تكون عقولنا أدواتٍ في تضخيم غول الاستهلاك.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

4 كتب عن القضية الفلسطينية صدرت في 2018

الروائية روزا ياسين حسن: لا نجاة لنا بغير الفنّ