04-أغسطس-2015

أطفال سوريون في مخيم للاجئين قرب الحدود التركية (براق ميلي/ الأناضول)

لم يكن يسيرًا عليّ، وأنا ابنُ مدينةٍ صغيرةٍ كالسويداء في أقصى الجنوب السوريّ، تقبّلُ الوصف المكرورِ للعبة كرة القدم من قبل المعلّقين الرياضيين في سوريا: "اللعبة الجماهيرية الأولى". إذ لم ينطبق الوصفُ العالميّ على كرة القدم عندنا، والحقّ أنّ أشياء كثيرة عالمية لم تنطبق علينا أيضًا. ففي السويداء، كان النّادي العربي، الفتيان سابقًا، يحظى بالتأييد الأكبر شعبيًّا، لكنّهُ بطبيعةِ الحال لم يكن يتجاوزُ مئاتِ المشجعينَ في مباريات دوري الدرجة الثانية الذي كانَ يلعبُ ضمنَ منافساته، ويطلقُ عليهِ "دوري المظاليم"، وهذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أنّ دوري الدرجة الأولى لم يكن كذلك أيضًا!. ومع استثناءاتٍ شحيحةٍ كاللعب ضدّ المنتخب الوطنيّ، رجالًا أو شبابًا، أو ضدّ أنديةٍ كالوحدة الدمشقيّ أو الجيش مثلًا، فقد لا يرى المرء في الملعب ما يزيدُ عن خمسمئة فردٍ يتسوّلون مشاهدة الكرة لدقائق فقط غيرَ محجوبة بغبار الملعب الترابيّ. ولا أعلمُ في الواقع ما إذا كانَ مئاتُ المشجعينَ يكفونَ لنطلق عليهم صفة "الجماهير".

كانت مفردة الجماهير في سوريا لا تذكّرُ بكرة القدم، فهناكَ ما هو أولى بذلك، الحزبُ الجماهيريّ، وجماهيرُ شعبنا التي تجدد البيعة

وللمفارقة فإنني على المستوى الشخصيّ حظيتُ بمشاهدة "الجماهير" تملأ ملعب كرة القدم في السويداء في فيديوهات تشييع سلطان باشا الأطرش مطلع الثمانينات، وشقيقه زيد أواسطَ التسعينات، وولدهُ منصور عامَ ألفينِ وستّة، وبالطبع في زيارة الرئيس الفنزويلّي الراحل هوغو تشافيز إلى المدينة قبل أعوامٍ خمسة تقريبًا.

كانت مفردة كالجماهير في سوريا لا تذكّرُ على أيّ حالٍ بكرة القدم، فهناكَ ما هو أولى بذلك، الحزبُ الجماهيريّ مثلاً، جماهيرُ شعبنا التي تجدد البيعة، وما إلى ذلك، مما يعطي انطباعًا لطفلٍ مثلي آنذاكَ أنّ من الطبيعيّ غياب الجماهير عن الملاعب، فمكانها الأساسيّ في مكانٍ آخر، حيثُ المسيرة الجماهيرية الحاشدة!

لكنّ الحالَ لم يكن ذاته في كلّ المدن، فمع وصولي إلى دمشق مطلع الألفية الجديدة، كان ملعب العباسيين من أولويات المقاصد، اسمُ الملعبِ يرتبطُ بطفولتي بـعدنان بوظو، أشهر المعلّقين السوريين، حيثُ أن الملعبَ قبل أن يحتضنَ دباباتِ وعناصر أمن وجيش النظام لقمع المحتجينَ في جوبر والغوطة الشرقية، كان يحتضنُ أغلبَ مباريات المنتخب، ولعلّ سوريينَ كثيرين يتذكرون صوت بوظو مع تسجيلِ هدفٍ للمنتخب في العباسيين "غووووول لسوريا الأسد".

ما علينا، فقد كسرَ مشجعو نادي الوحدة الدمشقيّ صورةَ المدرجات الفارغة، كانوا يكتسحونَ المدينة بألوانهم البرتقالية وهتافاتهم التي لا تهدأ، وبعدَ انتصار الفريق تنطلق المسيراتُ من ملعب العباسيين إلى ساحة جورج خوري والقصاع وشارع بغداد، مخلخلينَ الصمتَ المطبقَ على المدينةِ بأهازيج خفيفة ظلّ، كأن يتوقّفوا أمام شرفةٍ تقفُ عليها مسنّةٌ دمشقيةٌ تراقبُ الكرنفال، ثمّ بصوتٍ واحدٍ يطلقوا صيحتهم "يا حجّة قولي الحقّ .. وحداويّة ولّا لأ؟!"، فتهزّ رأسها بالإيجاب، وترسل لهم حبّات السكاكر من الشرفة.

لعلّ كثيرا من السوريينَ يتذكرون صوت عدنان بوظو مع تسجيلِ هدفٍ للمنتخب في العباسيين "غووووول لسوريا الأسد"

ولا تختلف الأجواءُ في حلب، حيثُ نادي الاتّحاد، الأهلي سابقًا، بقاعدته الشعبية العريضة، والتي تعتبرُ من الأكثر تنظيمًا في سوريا وجوارها، وعلى الرّغم أنني لم أحظَ بزيارة أشهر ملاعب حلب "الحمدانية"، إلا أنني كنتُ من بينِ الجالسينَ في القسم المخصص لجمهورِ الاتحاد في النهائي التاريخيّ لكأس الجمهورية ضدّ نادي الوحدة في دمشق، وكانت تلكَ المرة الأولى التي أرى فيها جمهور النادي ورئيس رابطة مشجعيه وأحد أبرز المشجعين السوريين عامةً، محمد أبو عباية، الذي لم تنفع عباءتهُ وتعويذاتهُ و"شماريخهُ" يومئذٍ شيئًا فخسرَ أمام أصحاب الأرض تاركًا شوارعَ دمشق لأهلها.

لكنّ الحدث الأبرز كروياً عند السوريين، كانَ في آذار 2004، عندما انطلقت في مدينة القامشلي الكردية شمال البلاد انتفاضة شعبية إثر شجارٍ بينَ مشجعي ناديي "الجهاد" ابن مدينة القامشلي، و"الفتوّة" نادي مدينة دير الزور، وبعيدًا عن تبادلِ الاتّهامات بين الطرفين، وعن أن المرحلة كانت تتسمُ باحتقانٍ قوميّ إثر احتلال القوات الأمريكية للعراق قبل ذلك بأقلّ من سنة. فقد تدخّلت قوّاتُ الأمنِ لتقتلَ أكثر من خمسةٍ وعشرينَ منتفضًا كرديًّا وتعتقل أكثر من ألفين، وتتهمَ الأكراد بالاتصالِ بجهاتٍ معادية.

على أيّ حال، كانت تلكَ المرحلة تمهيدًا واضحَ المعالم لما قد يحدثُ في بلادٍ احتكرت الدولةُ فيها الجماهير. وهوَ ما حدثَ عندما قرّرت تلك الجماهيرُ نفسُها كسرَ هذا الاحتكار، فسال دمُها بغزارةٍ قبل أن تقرر التحول لـ"ألتراس"!