مضى زمن كان الفنانون فيه يخافون البوح، لأنهم يريدون من الناس أن تتحلق حولهم كجمهور. مغنون، نجوم سينمائيون، شعراء وروائيون ورسامون كانوا جميعًا يعبّرون عن أحوال عامة. هكذا يمكن القول إن ما تغنيه أم كلثوم ويكتبه أحمد رامي وبيرم التونسي، هو الحب كمفهوم وليس حبًا مخصوصًا يتعلق بشخصين محددين. تصاريفه وتداعياته التي تصيب كل واحد منا. كانت أم كلثوم تغني أحوالًا عامة، تشبه، ولو تعسفًا، نشرة الطقس على الفضائيات. حيث لا يدرك السامع منها إلا أن أحوالًا جوية مختلفة سبق له أن خبرها في أزمان مضت، تضرب أقاصي الأرض وأدانيها في هذه اللحظة.

الرائج والدارج اليوم من الفنون هو الفن العاري وغير المسلح بأي خطاب. كيم كارديشيان تعرض صورة جسمها. لا شيء إضافيًا

ما زال بعض الفنانين اليوم يسلكون هذا المسلك، وما زال بعض الجمهور يهوى هذه المسالك ويتجمهر حولها. لكن مسالك جديدة بدأت تتسيد على وقت الناس وفنونهم. مسالك لم يعد فيها الفنان هو صاحب السلطة والناطق بالخطاب، والذي يسور حياته ومشاعره ونزواته بسور صفيق من الكتمان ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وعلى مسعى الكتمان هذا، لدى الفنانين، انوجدت فئة من المصورين الذين يتصيدون لحظات الفنانين الخاصة، وينشرون صورهم لجمهور متعطش لإنزال النجوم من خانة فوق بشرية إلى خانة البشر الفانين "العاديين". ودرجت كتابة سير متخيلة وحقيقية لهؤلاء النجوم، أحيانا لتلميع صورتهم المتعالية، وأحيانًا أخرى لإنزالهم من تلك المرتبة إلى مراتب البشر السائرين.

اقرأ/ي أيضًا: العري في الفن.. هاجس إنساني عابر للتاريخ

الرائج والدارج اليوم من الفنون هو الفن العاري وغير المسلح بأي خطاب. كيم كارديشيان تعرض صورة جسمها. لا شيء إضافيًا. تعرض صورة جسمها التي لا جهد فيها ولا إبداع شخصي. إنها صورة خام، وعلى المشاهد أن يقرر أن يلبسها ما يشاء. كل مشاهد له كيم كارديشيان خاصة به، وهي أيضًا تجهد في جعل خطابها واحًدا وضيقًا وغير ملتو. هو خطاب يوصل إلى غاية واحدة وحيدة. ليست ميريل ستريب التي لا تستطيع وأنت تشاهدها وهي تعري صدرها، أن تتأكد من غاياتها ونواياها. ولأنها تملك غايات ونوايا في هذه اللحظة بالذات، فإنها تحمر خجلًا. ولا يسعك أن تقدّر إن كانت تحمر خجلًا لأنها تقيم وزنًا لمن تتعرى له في الفيلم، أم لأنها تحسب الحب في السينما فضيحة تستدعي الخجل.

على أي حال، لا يحيل عري ميريل ستريب حكمًا إلى الجنس مع آخر. إنه عري ملتبس ومختلف، ولا يشبه في تعقيده بساطة كارديشيان التي لا تستطيع إلا أن تطلق خطابًا واحدًا: لدي جسم قابل للاستعمال. تمامًا مثلما تكون صورة شطيرة الهمبرغر موحية بخطاب واحد محدد، لشخص يشعر بحاجته في هذه اللحظة لتناول الطعام. فبخلاف ميريل ستريب أو أم كلثوم، التي يمكنها أن تشدك إلى خطابها ونفسها حتى لو كنت عازفًا، فإن كارديشيان حاضرة كل الوقت وجاهزة ما أن تغلبك الحاجة إلى استعمالها.

ليست كارديشيان فريدة من نوعها في هذا المضمار، لكنها مثال يعبر بوضوح عن طبيعة الرائج من الفنون الحديثة التي تطلب من الفنان أن يتعرى تمامًا من كل شيء، ليكون عبدًا خاضعًا للمشاهد الذي يستخدمه في وقت حاجته ووحدته.

لا يحيل عري ميريل ستريب حكمًا إلى الجنس مع آخر. إنه عري ملتبس ومختلف، ولا يشبه في تعقيده بساطة كارديشيان

اقرأ/ي أيضًا: "المكشوف والمحجوب".. التاريخ كصراع بين العري والاحتشام

والحال، فإن الخطاب الذي يصنعه هذا النوع من الفنون بات مهمة المشاهد ولا علاقة للفنان بإنتاجه. اليوم ثمة فن خام يشبه أشجار الغابات، وثمة متلق يصنع الخطاب الفني لنفسه فقط. وهو خطاب حاجات متكلف أكثر مما هو تصعيد للحاجات إلى مرتبة أسمى. كأن يصبح سد خلة الجوع اطمئنانًا، وكسوة الجسم تحررًا، وممارسة الجنس حبًا. مع الفنون الجديدة، خسرنا الاطمئنان والتحرر والحب، وبقي لنا سد خلة الجوع، وهو جوع يتعاظم على نحو مخيف، وبالمقدار نفسه الذي تتكاثر فيه الصور التي تتنطح لأن تكون فنونًا حديثة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شيرين نشأت وأزمة الجسد الإيراني

محمود فهمي عبّود.. الجسد الأنثويّ صرحُ المدينة