06-أكتوبر-2015

غرافيتي لـ بورخيس في بلازا في إيطاليا

لا يملّ المترجمون العرب والأجانب من نقل وإعادة نقل روائع الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس إلى لغاتهم، كأننا أمام مخزون ثقافي كوني لا ينفد، وليس هذا المخرون في النهاية سوى الخيال الذي يعتبره المصدر الرئيس لكل كتابة وإبداع. 

التماهي هو جوهر الترجمة الأدبية، حيث يمتزج صوت المترجم بصوت كاتب النص

ورغم معرفته باللغات الأوروبية خاصة الفرنسية والألمانية والإيطالية، فقد كتب بلغته الأصل الإسبانية التي تعلمها جنبًا إلى جنب مع الإنجليزية. وقد ترك المهمة للآخرين، ورغم إيمانه باستحالة الترجمة التامة فإنه يرى بأن النص المترجم ينبغي ألا يكون دون مستوى النص الأصلي. فالتماهي هو جوهر الترجمة الأدبية، حيث يمتزج صوت المترجم بصوت كاتب النص. وهذا ما يجعل الترجمة كتابة أخرى للنص.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الآخرين

كان بورخيس يعتقد دائمًا أنه كائن قارئ يقرأ في مكتبة العالم الهائلة، أما الكتابة فهي الفعل الذي يسعى من خلاله إشراك الآخرين وإدخالهم في دهشته، وفي عوالمه السحرية الشديدة التعقيد: "أعتبر نفسي قارئًا في الأساس. وقد تجرأت، كما تعرفون، على الكتابة، ولكنني أظن أن ما قرأته أهم بكثير مما كتبته. فالمرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه" (صنعة الشعر ص 137). إن هذا ما يفسر إقحامه لنفسه والحديث عنها على لسان شخوصه وأبطاله المتخيلة، فسيرته مبثوثة في كل نصوصه مما جعل النقاد يصفونه بالواحد المتعدد. في نصه "بورخيس وأنا"، يصف شبيهه/نقيضه بأنه يتقاسمه ميولاته ولكن بطريقة سمجة، تجعل كل شيء يبدو تقمصًا يقوم به ممثل، وربما كانت هناك، كما يقول، مغالاة في وصف علاقتنا بالعداء: "فأنا أعيش، أترك نفسي لعيشها، من أجل أن يدلي بورخيس بأدبه".

في كتابه الممتع "ضيفًا على برخيس"، يرسم ألبرتو مانغويل بورتريهًا حميميًا لشخصية بورخيس، عاشق الكتب والسفر إلى الأمكنة والمدن الأسطورية. كان قد التقاه لأول مرة عندما كان يعمل في إحدى المكتبات في بوينس آيرس، وهي مكتبة "بغماليون"، التي كانت فضاء يلتقي فيه المهتمون بالأدب وتقدم لهم صاحبتها أحدث الإصدارات في أوروبا وأمريكا؟ كان ذلك في عام 1964 وعمر مانغويل لايتجاوز 16 عامًا. 

من عادة بورخيس أن يمر بعد عودته من عمله في المكتبة الوطنية لزيارة المكتبة لاقتناء كتاب أو السؤال عن آخر، وفي أحد الأيام دخل هذه المكتبة ترافقه أمّه العجوز التي كان عمرها آنذاك 88 سنة، وكان بورخيس قد فقد بصره كاملًا حيث ورث تلك العاهة وكبرت معه بدءاً من الثلاثين من العمر، لتستقر نهائياً في عينيه بعد الثامنة والخمسين، وبعد أن اشترى بعض الكتب وأوصى على أخرى، سأل مانغويل وهو يهم بمغادرة المكتبة إن كان لديه وقت في المساءات لأنه بحاجة إلى من يقرأ له، بعد أن أصبحت أمه تتعب من القراءة، وافق الفتى مانغويل وذهب إلى شقة بورخيس "التي بدت كأنها معلقة خارج الزمان، في زمان نسجته تجاربه الأدبية الممتدة من إنجلترا الملكة فيكتوريا، إلى القرون الوسطى، وبوينس آيرس العشرينيات والثلاثينيات، وصولًا إلى جنيف ومدريد ومايوركا". لقد أصبح مانغويل يتردد على شقة بورخيس في أوقات فراغه، ليقرأ له ما يطلب من مقاطع الكتب في مختلف الفنون والآداب، بل كان يرافقه أحيانًا إلى السينما لمشاهدة بعض الأفلام.

كانت مكتبة بورخيس الخاصة مخيّبة للآمال: صناديق معدودة، هي خلاصة قراءاته

هكذا قرأ مانغويل، في غرفة الجلوس وتحت لوحة محفورة لبيرانيزي تمثل آثارًا رومانية دائرية الشكل، كيبلنغ، وستيفنسون، وهنري جيمس، ومداخل من موسوعة بروكهاوس الألمانية، وأشعارًا لمارينو، وهاينه الذي كان بورخيس يحفظ أشعاره عن ظهر قلب، ويتلو بعض مقاطعها دون خطأ.

اقرأ/ي أيضًا: الفكرة التي صنعت كافكا

يقول مانغويل: "لم أشعر قطّ أنني مجرد شخص يؤدي واجبًا حين كنت أقرأ لبورخيس، بل أحسست بتلك التجربة كما لو أنها نوع من الأسر اللذيذ، وما خلب لبّي لم يكن تلك النصوص التي جعلني أكتشفها والتي صار كثير منها أثيرًا لديّ، وإنّما تعليقاته التي كانت تنمّ على معرفة هائلة. وشعرت أنني المالك الوحيد لطبعة محققة بعناية من كتابٍ كُتِبَ من أجلي ومن أجلي فقط". كذلك يذكر مانغويل بأن أحاديثه مع بورخيس كانت تدور حول الكتب وصناعة الكتب واكتشاف المزيد من المؤلفين الذين لم يقرأهم بعد.

يذكر مانغويل زيارة الشاب ماريو بارغاس يوسا الى شقة بورخيس في الخمسينيات وسؤاله، بعد معاينته الأثاث المتقشف، لماذا لا يقيم "المعلم" في منزل أكثر ترفًا، شعر بورخيس بالمهانة من تعليق ضيفه: "ربما تجري الأمور هكذا في ليما، لكننا هنا في بوينس آيرس لا نحب التباهي!".

كانت مكتبته الخاصة مخيّبة للآمال: صناديق معدودة، هي خلاصة قراءاته بدءًا من ستيفنسون وتشيسترتون وهنري جيمس وأوسكار وايلد وغيرهم. وغابت عن مجموعته نسخ من أعماله.