يقول نجيب محفوظ في روايته المرايا: "بت أعتقد أن الناس أوغاد لا أخلاق لهم، وأنه من الخير لهم أن يعترفوا بذلك، وأن يقيموا حياتهم المشتركة على هذا الاعتراف، وعلى هذا تصبح المشكلة الأخلاقية الجديدة هي كيف نكفل الصالح العام والسعادة البشرية في مجتمع من الأوغاد".
حين أتساءل كل يوم عن الأسباب التي بسببها رقدت الثورة المصرية على قارعة الطريق وأصبحت من الذكريات الأسطورية لجيلنا، يحضرني في المقام الأول ذكر "المجاميع الثقافية" أو ما اصطلح على تسميته "شلل" بكسر الشين.
حين أتساءل كل يوم عن الأسباب التي بسببها رقدت الثورة المصرية على قارعة الطريق وأصبحت من الذكريات الأسطورية لجيلنا، يحضرني في المقام الأول ذكر "المجاميع الثقافية"
لا أستثني نفسي من الهم والله على قلبي شهيد، ولكن هناك تصرفات وسلوكيات لا تقبل النفس الإقبال عليها، إما لطبع خالص جُبلت عليه، وإما لكوني لست ماهرة في بعض الخصال التي يجيدها أهلها بسلاسة يُحسدون عليها. أو لأنني ببساطة لا أشتبك!
ومع اليقين الذي اتفقنا عليه في جيلنا وهو أن الثورة كانت صادقةً بلا زعيم يحضرني وأنا أشرب الشاي في نافذة من نوافذ البيت كما يفعل كل المصريين في ساعة العصاري أن أستحضر وأنا أراقب الناس في الشوارع ما سمعت ورأيت على مدى خمس سنوات عن واقع الثقافة والمثقفين في مصر.
والحقيقة أنك في مصر تسمع عن الليبرالية ولا تراها وتسمع عن اليسارية ولا تراها، وتسمع عن التيارات الإسلامية فترى أطلالها، وتسمع عن المثقفين وترى قومًا هم أعجاز نخل خاوية، إذا مررت عليهم تناولتهم من على قارعة الطريق ووضعتهم جانبًا من باب أن أقل الإيمان منع الأذى عن الطريق.
والحقيقة أيضًا أنك ترى من بينهم من تحب أن تسمعه في لغو الحديث وترى متانة حجته وتستسيغ مقارعته لك، ثم تجد حرارته مرتفعة إذا ما سلط لسانه على خصمه، ففجر في نقده حتى طال السباب الشخص وتحولت القصة كلها إلى شخصنة بائسة، ومنهم من يرى أن النساء أحباب الله وأحبابه هو، فاستغل تأثيره عليهن كما تغوي النار الفراشات، فتضحك من قبل وأنت ترى أجمل حججه كأن سر إلهامها جمال باهر أو متوسط يسعى إليه.
اقرأ/ي أيضًا: الفريضة الغائبة في الثورة المصرية
ومنهم من يرى أن التفتح والانفتاح هو أن تجاهر بتحررك من كل دين، وله كل الحرية في ذلك، لا إكراه في الدين، لكنك تراه مع ذلك يمارس شرقيته في بيته كالمصاب بالفصام، أو يمارس بلطجة حكمه على خلق الله ظاهريًا وكأنه يعمل في وظيفة إله بعد ظهر يومه، ليحسن دخله مثلًا، فتتساءل أين ذهبت أفكاره المتفتحة وفي أي طريق وقعت منه.
ومنهم "السقا" الذي ينقل كلام هذا في فم ذاك ليشتري إخلاص وثقة صديق يعرف أنه سيستفيد منه بطريقة أو بأخرى، فيحلو له أن يتكلم في الأعراض والأخبار والحكايات غير الموثوق منها وأن يهتك في معرض حديثه لحم هذا ودم ذاك حتى يخيل إليك أنه العالم ببواطن الأمور وهو في حقيقة الأمر يعلم قشورها.
ومنهم من يدعي كل ما ليس فيه، غرورًا أو حقًا، لا فرق، المشكلة في ادعائه أصلًا، ولا يتوانى عن شراء عداوة من حوله، مستغنيًا بما عنده من عناد أو كبر، متخيلًا أن الله منحه ولم يمنح غيره، محور الكون هو والعالم يدور حوله، والكل متحفز لالتقاط الجديد عنه، وحين تقترب من تلك الصورة المرسومة التي أبيت سنوات أن تفعل رهبة ورغبة منك وعن معرفة قديمة أن الصور المرسومة من بعيد أجمل ومن قريب أقبح، تجد طفلًا يرقد متكورًا على عقده القديمة بائسًا حزينًا كأنما صُب عليه الغم صبًا، غير متزن، لا يدري ماذا يريد ولا عن ماذا يبحث، تختل أولوياته، فيتحول إلى قنبلة موقوتة تنفجر في وجه المقترب منها.
ومنهم المثقف القارئ الغارق في التنظير حتى أذنيه، يرى أن العالم كله لا يضاهيه وأن التفاهة تحيط به من كل جانب، ثم تسمع عنه ما يجوز تسميته بالفضائح أخلاقيًا ومهنيًا، ولا تدري هل سلط الله عليه نفسه أم أن نفسه هي التي تسلطت عليه كي تفضحه.
ومنهم من يكرس حياته وصوته وقلمه لسب شخص أو حزب، فيجمع الناس حول هدف بعد تسميته بأسماء عديدة، ومن منطلقات جديدة مغايرة، والعجيب أنك تجد الناس: "تهيص" حوله سعيدة كأنما كانوا ينتظرونه قبل مجيئه.
عاهدت نفسي ألا أشتبك، واكتشفت مع مرور الوقت أن "الفُرجة" على خلق الله أمر لا يضاهيه متعة مشاهدة عروض السيرك العالمية الخارقة، وأنا لا أكتب هذا المقال لأثبت لنفسي شيئًا فكل خلق الله خطاؤون ولا أستثني نفسي.
لكني أكتبه كمحاولة لتشخيص المرض الذي هو ربما سبب من أسباب سوء الأوضاع. ولا أضع الناس كلها في سلة واحدة فهناك من تحبهم ولا تعرفهم ومن تعرفهم وتحبهم، وتبتهل إلى الله ألا تغيرهم المقادير.
اقرأ/ي أيضًا:
أبو نضاره.. حكاية الساخر المصري الذي ألهم ثورة
25 رسالة من أجل "راجعين يوم 25"