09-يونيو-2016

(Getty) القاهرة منتهى القرن الـ19

في مقالٍ لهما بصحيفة ذا نيويوركر، يشرح حسين عمر وأنّا ديلا سوبين الدور الذي لعبته جريدة مصرية ساخرة وناشرها في تحفيز المصريين على الانتفاض ضد الخديوي إسماعيل ثم الخديوي توفيق من بعده والنفوذ الأجنبي المتزايد في مصر آنذاك.

جيمس سانوا يهودي مصري-إيطالي وُلد في القاهرة 1839، مؤلف مسرحي قبل أن يصدر مجلة "أبو نضاره"

___

في شباط/فبراير الماضي وفي كلمةٍ له لشرح خططه لرد دَين مصر الهائل، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي: "والله، أنا لو ينفع اتباع لاتباع". خلال ساعات، عرض شخص مجهول السيسي للبيع على موقع eBay. أشار البائع إلى أن الرئيس (مجاني الشحن، غير قابل للاسترجاع) "مستعمل استعمالًا بسيطًا"، من قِبل ملاكه السابقين، وهم أمراء من الخليج. وصل المزاد إلى أكثر من مئة ألف دولار قبل أن يتم حذف الإعلان.

Subin-HusseinEgypt_Abou-Naddara-cover-1-861.jpg
 من خلال الحوارات الفكاهية والرسوم الأنيقة في جريدته المكتوبة بخط اليد التي أسماها أبو نضاره، حفز الساخر جيمس سانوا الذي عاش أواخر القرن التاسع عشر المصريين ضد العلل السياسية لعصرهم.

 

في الأعوام الثلاثة منذ إطاحة السيسي بالرئيس الأسبق محمد مرسي في انقلابٍ عسكري، تم إخراس المعارضة العلنية في مصر بعنف. داهمت الشرطة مكاتب الصحف، واعتقال صحفيين، وطرد منظمات غير ربحية، واختفى قسرا المئات ممن يشتبه في كونهم نشطاء. لكن في أبريل الماضي، اشتعلت شوارع القاهرة بالاحتجاج مجددًا عندما أعلن السيسي أنه قد منح حكومة السعودية جزيرتين بالبحر الأحمر. على السطح، لا يبدو أن مصير الجزيرتين سيؤثر كثيرًا على حياة المصريين اليومية. لكن بالنسبة للكثير من المراقبين بدت الأخبار دليلًا على ازدواجية نظام السيسي.

اقرأ/ي أيضًا: موديانو والنافذة التي تشبه المقصلة

عدّل الرئيس نفسه الدستور لمنع حاكم مصر من التنازل عن أرضٍ مصرية لقوىً أجنبية؛ وتزامنت هبة الجزيرتين مع وعد السعودية بصفقة نفط واستثمارات بقيمة 1.5 مليار دولار. كان من السهل الشعور بأن السيسي يبيع أجزاءً من مصر لمن يدفع أكثر. في التاسع من أبريل، غرّد الساخر المصري المنفي باسم يوسف بالعربية: "قرّب قرّب يا باشا، الجزيرة بمليار، الهرم باتنين، وعليهم تمثالين هدية".

هناك كاريكاتير من أواخر القرن التاسع عشر يظهر نفس المشهد تمامًا. في ذلك الكاريكاتير، يجلس حاكم مصر على طاولة أمام أهرامات الجيزة، ممسكًا بمطرقة مزادات، بينما يتابعه حشد من المشترين الأجانب المهتمين. "كانتو مزاد يا سوّاحين، يا محبين الأنتيكات، أبو الهول وأحجار الهرمات: البيع بالنقد والعملة جنيهات، جنيهات خالية من النحاس"، ينادي البائع، ويتابع: "ألا أونو/ ألا دوّه، يا الله، زودوا يا ناس!!!"

Subin-HusseinEgypt_auctioning-Egypt-690.jpg
 كاريكاتير من عدد 30 أيار/مايو 1879 من جريدة أبو نضاره يظهر حاكم مصر يبيع أهرامات الجيزة لحشدٍ من المشترين الأجانب.

 

نُشرت هذه الصورة في عدد أيار/مايو 1879 من جريدة ساخرة تدعى أبو نضاره زرقا. كان الاقتصاد المصري آنذاك، مثل اليوم تمامًا، يتخبط في الفوضى، وكانت البلاد تطفو بواسطة قروضٍ ضخمة من المحسنين الأجانب. كان الخديوي إسماعيل المبذّر، الذي اشترى لقبه من السلطان في اسطنبول، قد انطلق في هيستريا من مشاريع البناء الطموحة، اقترض لأجلها مبالغ ضخمة من البنوك البريطانية والفرنسية. نصّب مقرضي الخديوي الأوروبيون بدورهم أنفسهم في وزارته، وبدأوا في شراء مساحاتٍ واسعة من الأراضي والبنية التحتية المصرية، بينما فرض إسماعيل ضرائب باهظة على الفقراء. في حين بدأ الغضب يزداد عبر البلاد، بدأت مطبوعة غامضة في التداول، مكتوبة بخط اليد (سامحوني، "تبدو حروفي مثل أذني حمار"، هكذا التمست من القراء). على غلاف أعدادٍ بعينها، لفت الأنظار شخص يرتدي معطفًا وعمامة وله شارب، يحيط به تمثالين لأبو الهول ونظارة كبيرة للغاية مقارنةً بحجم رأسه.

كان مُصدر الجريدة – الرجل ذو النظارة الزرقاء شخصيًا- هو جيمس سانوا (أو جمس سانووا كما كان يكتب اسمه حينذاك)، وهو يهودي مصري-إيطالي وُلد في القاهرة عام 1839. اشتُهر سانوا الذي كان منضمًا للبنائين الأحرار (الماسونيين) ويعرف عدة لغات في البداية كمؤلف مسرحي، قبل أن يوجه مواهبه إلى الصحافة الساخرة.

أقسم سانوا أن أبو نضاره لم تكن جريدة سياسية، وأعلن عنوان الجريدة الفرعي أنها مجرد "شيء للضحك". لكن من خلال مزيجه الفريد من الحكايات الرمزية والحوارات الفكاهية والرسوم الأنيقة، واجه سانوا بشجاعة العلل السياسية لعصره: القسوة القمعية للفرعون، الاقتصاد المدمَّر، الرقابة على الصحف. في أحد رسوم الكاريكاتير، يظهر الخديوي بقبعة درويش ودف، مغنيًا في الشوارع طالبًا أموالًا لسداد ديون مصر.

في رسمٍ آخر، يظهر كائن له رأس الخديوي وجسد ثعلب محبوسًا في قفصٍ بسيرك، بينما يستغرق المتفرجون الأوروبيون في التحديق في المشهد الغريب. نالت الجريدة شعبيةً واسعة في مصر: كان الفلاحون يحتشدون في المقاهي لسماعها تقرأ بصوتٍ عال، وكانت هناك إشاعات أن الشيوخ يخبئونها تحت عماماتهم. "لقد كانت في كل ثكنة عسكرية، في كل هيئة حكومية"، هكذا أورد مراقب بريطاني في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، مضيفا: "لقد كانت تُقرأ في كل بلدة وقرية ببهجةٍ كبيرة".

Subin-HusseinEgypt_Khedive-in-Dervish-Hat-690.jpg
 كاريكاتير من عدد 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1878 يُظهر الخديوي يرتدي قبعة درويش ويمسك دفًا، مغنيا في الشوارع: "اتكاتروا علي ما كلوّا، وشلحوني وولوا لاسكندرية، وما خلوّا عندي ولا حبة أطيان * شرم برم ،حالي غلبان"

 

مؤخرًا، ومن خلال جهود فريق من الأكاديميين الألمان، تم رقمنة الأرشيف الكامل لجريدة أبو نضاره. لكن في مصر اليوم تظل الجريدة منسية، ومن المستحيل تقريبًا، مثلها مثل الكثير من الوثائق المرتبطة بماضي مصر، إيجاد نسخ ورقية داخل البلاد.

يبقى اطلاع الجمهور على الأرشيفات القومية مقيدًا، حيث تمنع لوائح أمن الدولة شديدة التضييق الجميع عدا قلة من أصحاب الامتيازات من الإطلاع على ماضي البلاد. يمكن أن تخلق تلك القيود شعورًا معينًا بفقدان الذاكرة التاريخية في مصر. في الخامس والعشرين من كانون الثاني/يناير عام 2011، أعلن الكثير من المحليين والخبراء السياسيين المذهولين، مصريين وأجانب، أن الانتفاضة غير مسبوقة، وأنها ظهرت من العدم. "جذبت مصر أنظار العالم بكامله، لكن الأهم هو أن المصريين فاجؤوا وأذهلوا أنفسهم"، يتذكر أحد المراقبين، حيث أثبتوا خطأ الاعتقاد الشائع بأن المصريين "منصاعين ولا مبالين".

Subin-HusseinEgypt_Khedive-in-Cage-690.jpg
 في أحد الرسوم الكاريكاتيرية من عدد 30 أيلول/سبتمبر 1878 من أبو نضاره، يحدق المتفرجون الأوروبيون في أحد كائنات السيرك له رأس الخديوي وجسد ثعلب

 

لكن أحداث عهد أبو نضاره تثبت أن تلك القوالب مرتبطة بمواجهة زيادة ديون مصر، ومصادرة البريطانيين أملاك الخديوي وإطاحتهم بالخديوي إسماعيل، منصبّين نجله الرعديد توفيق كدميةٍ على العرش. كان جيمس سانوا، الذي كان هدفًا لمحاولتي اغتيال، قد أبحر إلى فرنسا في ذلك الوقت وأعاد تسمية الجريدة إلى "رحلة أبي نظاره زرقا الولّي من مصر القاهرة لباريز الفاخرة". حتى في المنفى، استطاع الناشر المصاب بقصر النظر رؤية الأحداث التي تتكشف في وطنه بوضوح.

في منفاه طبع سانوا جريدته الساخرة "أبو نضاره" على ورق أصغر حتى يمكن تهريبها إلى مصر وعندما كانت السلطات تمنعها كان يغير عنوانها 

اقرأ/ي أيضًا: نبيل الملحم: أغار من عبد الباسط الساروت

قام سانوا بطبع الجريدة على ورقٍ أصغر حتى يمكن تهريبها إلى مصر داخل منشوراتٍ أقل تحريضًا، وفي كل مرة كانت السلطات تمنعها كان ببساطة يقوم بتغيير العنوان. وحيدًا في باريس، اخترع سانوا مجتمعًا خياليًا من النشطاء – رجال ذوي نظارات خضراء وصفراء وحمراء- يكتبون مقالاتٍ تحريضية للجريدة ("تجعل البحر عاصفًا إذا قُرئت عليه بصوتٍ عال"، كما كتب). اقتبس أحد شخصياته الأخرى، شيخ أبو نضاره، كثيرًا من القرآن ووبخ المصريين بلهجةٍ أبوكاليبتية على صمتهم: "قريبًا سيتم احتلالكم! إن ذلك اليوم قريبٌ بشدة! . . . يوم القيامة سوف تكون مصر إنجليزية وتأكل أبناءها"، داعيًا الشعب المصري إلى ثورة "للمرة الأخيرة"، كما أضاف تهديدًا: "سوف أدمر جريدتي وأكسر نظارتي". كان يتم توزيع الجريدة سرًا إلى الجنود المصريين، والذين كانوا على حافة التمرد.  

أُلهم ضابط مصري شاب ذو شخصية كاريزمية يدعى أحمد عرابي بما قرأه. هاتفًا بشعار "مصر للمصريين"، قاد عرابي آلاف الفلاحين والجنود في احتجاجاتٍ أمام قصر الخديوي توفيق، ولمدة ثلاثة أشهر قصيرة أطاح الثوار بالخديوي من العرش وحكموا بدلًا منه.

في هذه الأثناء رسم سانوا، من باريس، عرابي رئيسًا للملائكة، بهيئة ميخائيل، قاطعًا الطريق أمام دخول البريطانيين جنة مصر المحاطة بالأسوار، كما رسم نفسه يحيي الثوار من سلة منطاد هوائي. لكن لم يمر وقتٌ طويل حتى قمع الجيش البريطاني التحركات الثورية بوحشية، باستخدام السفن الحربية والمدافع، محولًا الانتفاضة إلى رماد. قُتِل الآلاف، وتم نفي عرابي إلى جزيرة سيلان، وهكذا بدأت سبع عقود من الاحتلال البريطاني. لقد فشلت أول ثورة كبيرة في مصر، وأبو نضاره يراقب.

Subin-HusseinEgypt_Urabi-and-Eden-320.jpg
 كاريكاتير من عدد تشرين الأول/نوفمبر 1881، يظهر أحمد عرابي كرئيس الملائكة ميخائيل، يقطع الطريق أمام دخول البريطانيين جنة مصر المحاطة بالأسوار.

 

مثل سانوا منذ عام 2011، ذهب الكثير من المصريين إلى المنفى، سواء كان اختياريًا أو غير ذلك، يستمر العديد من هؤلاء المهاجرين المعاصرين في الدفاع عن الثورة من الخارج. داخل مصر، كثيرًا ما يتم رفض هؤلاء الدخلاء واعتبارهم مخربين: أي حقٍ لديهم في التدخل في شؤون دولة لم يعودوا يعيشون فيها؟ هل كان من المقبول أن يقوم جيمس سانوا بتشجيع الناس على الثورة من أمان شقته الباريسية؟ قد يرد هؤلاء في الخارج بأنها بالفعل مسؤوليتهم أن يتكلموا، نظرًا لأن المصريين بالداخل يتم إخراسهم. لكن المنفى يرتبط دومًا بمعضلة أخلاقية: بدلًا من أن يكونوا جزءًا من التغيير الذي يرغبون في رؤيته، يمكنهم فقط أن يحثوا الآخرين على جلبه لهم والمخاطرة بحياتهم أثناء ذلك.

Subin-HusseinEgypt_Sanua-in-hot-air-balloon-690.jpg
 كاريكاتير من عدد 18 شباط/فبراير 1881 كُتب فيه: "ابو نضاره من على الطياره يرى قيامة الفلاحين ويقول لهم عفارم على ضرب الظالمين"

 

استمر سانوا في نشر جريدته لثلاثة عقود طوال، محفزًا الناس من جميع الطبقات الاجتماعية بمساعدة القطط المتفلسفة وتماثيل أبو الهول الباكية ومجتمعه الغريب من النسخ المصابة بقصر النظر. لم يتوقف سانوا عن النشر إلا في سبعينياته، عندما ناشده طبيب العيون الباريسي الخاص به الحفاظ على ما تبقى من نظره. توفي سانوا بعد ذلك بفترةٍ قصيرة، حزينًا لأن شيئًا لم يتغير في وطنه. لكن المرء يستطيع تخيله اليوم في مكانٍ ما بالأعلى، مطلًا من خلال نظارته على الاضطراب الأخير في مصر، منتظرًا الثورة القادمة.

اقرأ/ي أيضًا:

تيسير خلف.. تدمر أكبر من مجرد آثار

أندريس نيومان.. شعر يملأ فراغ الحاضر