06-يوليو-2022
من مهرجان الجونة السينمائي (تويتر)

من مهرجان الجونة السينمائي (تويتر)

التعليقات على القرار المفاجئ بتجميد مهرجان الجونة السينمائي، ومن بعده اللغط والإشاعات التي دارت حول اختفاء المطربة المصرية آمال ماهر وظهورها اللاحق، تقاطعت حول نقاط تتعلق بمصادر تمويل الأنشطة الثقافية والفنون وحدود السيطرة التي يمتلكها تقاطع رأس المال مع السياسة، على الحقول الفنية والعاملين فيها. فمن ناحية "الجونة"، كان إغلاق المهرجان الذي غدى أبرز الفعاليات السينمائية في المنطقة مقدمة لأسئلة لم تأخذ ما تستحقه من الفحص، حول العلاقة شبه الإقطاعية التي تربط المهرحان بعائلة آل ساويرس الممول الوحيد لفعالياته. أما في الحالة الثانية، فالقضية أخذت أبعادًا أكثر تعقيدًا وخطورة، بفعل إشاعات حول مسؤولية تركي آل شيخ، مسؤول هيئة الترفيه السعودية، عن منع آمال ماهر من الغناء، بل والإيحاء للسلطات المصرية باحتجازها. خرجت آمال في تسجيل مصور لتنفى تلك الإشاعات، إلا أن الأسئلة المثارة حول التمويلات ذات الطبيعة السيادية، والعلاقات الخليجية المصرية والتعاقدات شبه الاحتكارية في أوساط الإنتاج الثقافي لا تزال قائمة وذات مغزى، فتلك الإشاعات لم تكن لتصدق على نطاق واسع، لولا أن البنية القائمة توحي بإمكان تحققها فعلًا.

يحتاج النظر في الاقتصاد السياسي للثقافة، إلى الاعتراف باستحالة الفصل بين عناصره الثلاثة، المادي والسلطوي والرمزي

تتقاطع كل تلك الأسئلة وحوافزها على أرضية واحدة، هي الاقتصاد السياسي للثقافة، وهنا يقصد بالثقافة معناها المزدوج، النخبوية والجماهيرية. الأولى أي الثقافة "العليا"، وهي الأحوج دائمًا إلى الرعاية، بسبب افتقادها للجماهيرية بالتعريف، مما يجعل صلتها بالسلطة السياسة وبرأسمال شديد الاعتمادية في معظم الأحوال، ممثلًا في الدعم الحكومي للمؤسسات الثقافية والمنح والإقامات والجوائز وغيرها من صور الدعم غير المباشر . أما الثانية، وبفضل قابليتها للتسويق الجماهيري وتحقيق الأرباح، فتخضع لقواعد السوق، على الأقل نظريًا. لكن وفي ظل غياب قواعد صارمة للفصل بين السياسي والاقتصادي، وسيطرة الأول على الثاني، عبر تدخل السلطة في عمليات توزيع الموارد والتراكم لا تنظيمها فقط، فإن آليات أخرى تتداخل مع قواعد السوق، احتكارية أو زبائنية يشوبها الفساد وأحيانا تحل محل آليات المنافسة السوقية بالكامل. والمثال الأكثر وضوحًا على هذا، هو توجه السلطة في مصر إلى السيطرة على إنتاج الدراما التلفزيونية، وتخطيطها بشكل مركزي، وتوزيع حصصها على شبكة زبائنية شبه احتكارية تتبع الأجهزة الأمنية مباشرة.

وكما تحمل الثقافة معنى مزدوجًا، فالاقتصاد هنا يشير إلى مستويين، الاقتصاد بمعناه المادي أي التمويلات وميزانيات الإنتاج وعمليات العرض والطلب وشبكات التسويق والتدوير والاستهلاك. والثاني هو الاقتصاد بمعناه الرمزي، أي باعتبار الثقافة عاملًا مركزيًا في مفهوم رأسالمال المعنوي وصور التمايز الطبقي ومراكمة القيمة الاجتماعية. والحال أن الفصل بين المستويين المادي والرمزي يبدو إجرائيًا لأغراض التحليل، لكن يصعب تبريره في الواقع. والمثال الأكثر نموذجية على التداخل بينهما هو الجائزة الثقافية، فقيمتها المادية تعكس اعترافًا بالجدارة الرمزية لمتلقيها. ولا تقتصر الأبعاد المالية للجائزة على قيمة المبلغ الممنوح للفائز، بل على قدرة الجهة المانحة للجائزة على تغطية نفقة لجان الجائزة وجهازها الإداري ومصاريف دعايتها وحفلات توزيع الجوائز وخلافه، بغية مراكمة رأسمال رمزي يصب في صالح اسم الجائزة، وهو رأسالمال الذي تتقاسمة بنسب متفاوتة الجهة أو الدولة المانحة مع الفائزين. ولا تسر العملية في اتجاه واحد فقط، فكما تمنح الجائزة للفائزين اعترافًا بالمكانة في مجالهم، فجدارة الفائزين وتقدمهم للجائزة والمنافسة عليها، تصب في مصلحة القيمة الرمزية للجائزة نفسها والاعتراف بريادة الجهة/الدولة المانحة وسلطتها الرمزية.

بحسب فهم مختزل للماركسية، يتم النظر للثقافة بوصفها بنية فوقية تتأسس على بنية تحتية هي الأسس المادية للمجتمع، أي ملكية أدوات الإنتاج وأنماطه وغيره مما يمكن اعتبارها واقعًا في نطاق الاقتصاد السياسي. وفي هذا التصور، تكون الثقافة مجرد انعكاس للاقتصاد أو مجرد أداة خطابية في يد الطبقة الحاكمة أو الرأسمالية لتعزيز هيمنتها المادية على المجتمع. وعلى نفس المنوال، ومن منطلقات وطنية أو ما بعد استعمارية، يتم اتهام تمويلات المؤسسات الغربية بترويج وفرض أجندات وقيم بعينها على مجتمعاتنا. ولا يبدو هذا صحيحًا في الممارسة العملية، فعلى سبيل المثال تداوم جهات التمويل الأمريكية على دعم مشروعات ثقافية في دول المنطقة وخارجها، تنتقد السياسات الأمريكية والقيم الغربية، وبالأخص الرأسمالية والفردية والاستهلاكية. وبالطبع يمكن تفسير هذا بوصفه تدجينًا للنقد واستيعابه داخل المنظومة القائمة. ولا يمكن إنكار وجاهة مثل ذلك الطرح، إلا أن التسليم به يقودنا إلى قناعة بتعقيد العلاقة بين التمويل ومضمون المنتج الرمزي وشكله، أي لا مباشرة العلاقة بين الاقتصادي والثقافي.

هكذا يحتاج النظر في الاقتصاد السياسي للثقافة، إلى الاعتراف باستحالة الفصل بين عناصره الثلاثة، المادي والسلطوي والرمزي، فالقيمة الرمزية قابلة للتحول إلى مادية، والعكس صحيح. ويجري توسط تلك التحويلات عبر السلطة ولصالحها، وفي هذه العملية نفسها تمارس السلطة بمعناها الواسع، هيمنتها على المستويين المادي والرمزي. ومع الاعتراف بتلك القابلية التحويلية والتداخل المتبادل، لا يمكننا اعتبار الحقول الثلاثة للاقتصاد والسياسة والثقافة متطابقة. فالحقل الثقافي يعمل بحسب آلياته وقواعده الخاصة. فمع أن الحصول على التمويل أو الجوائز يعد معيارًا للجدارة بلا شك، إلا أنه ليس كافيًا. فالمعايير الجمالية والتقنية تظل محددات شديدة الأهمية للاعتراف في الحقل الثقافي المعين. والعكس صحيح أيضًا، فتلك المعايير وحدها ليست كافية، ما لم يعززها اعتراف مؤسسي أو تحقق جماهيري بحسب قواعد السوق.

تغيب المناقشات المعمقة بخصوص الاقتصاد السياسي للثقافة، ففي الدراسات الاقتصادية يتم تجاهل أسئلته باعتبار الثقافة نشاطًا اقتصاديًا هامشيًا ومتواضع الحجم بمعايير رأسمالية، وهو ما لا يبدو صحيحًا حال توسيع مفهوم الثقافة لتشمل الجماهيري والترفيهي. وبالدرجة نفسها من الإهمال، يندر التفات مبحث الدراسات السياسية إليه، لاعتبارات مشابهة، أي افتراض محدودية تأثير الثقافة في الحقل السياسي في المنطقة. أما العاملون في المجال الثقافي، فهم الأكثر إنكارًا لاقتصادياته، إما بشكل واع براغماتي أو بأشكال غير واعية بأسس أيديولوجية. فقسط من الهالة التي تحيط بالثقافة تنبع من الادعاء الرومانتيكي بانفصال الثقافي وتساميه جماليًا فوق السياسي والعمليات الاقتصادية. وعلى هذا النحو، يكون مجرد الاعتراف بالاقتصاد السياسي للثقافة تدميرًا لتلك الهالة، وخصما من القيمة الرمزية لها.

تغيب المناقشات المعمقة بخصوص الاقتصاد السياسي للثقافة، ففي الدراسات الاقتصادية يتم تجاهل أسئلته باعتبار الثقافة نشاطًا اقتصاديًا هامشيًا

ذلك الإهمال المجمع عليه، في حين أنه قد يوحي بهامشية اقتصاد الثقافة السياسي، فإنه وبقدر أكبر قد يدفعنا إلى الاعتقاد أن استغلاقه على الفحص وهامشيته وغموض علاقاته التبادلية هي شروط أساسية لكفاءة عملياته متعددة المجالات، في الاقتصاد والسياسة والثقافة، وبين مساحات تقاطعاتها.