16-ديسمبر-2015

بين تونس ومصر علاقة مثيرة ونقاط تشابه عديدة(فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

جال بخاطري وأنا أستمع إلى أغنية "الفلاحين" للشاعر المصري زين العابدين فؤاد بصوت المغنية التونسية آمال المثلوثي، أن المغني المصري حمزة نمرة، قد غنى أيضًا للشاعر التونسي آدم فتحى أغنيته الشهيرة "هيلا هيلا يا مطر".

مثلت تونس وعبر القرن والنصف المنصرمين مؤشر التغيير في مصر والمنطقة

امتد بي الخيال فتذكرت ما بين مصر وتونس من علاقة مثيرة نادرًا ما تم تفحصها، وهي أن تونس وعبر القرن والنصف المنصرمين تمثل المؤشر للتغيير في مصر والمنطقة. فعندما غنى المصري كلمات التونسي والعكس كان ذلك تعبيرًا عن نمط تاريخي يستحق التوقف. لا توجد حتمية تاريخية هنا، لكنها فيما يبدو ديناميكيات التغيير وسننه على نطاق إقليمي متداخل بعمق مع المحلي والوطني. إزاء هذا الخاطر الجامح لا أملك إلا مشاركتكم بعض ملامحه، أو ما أتذكر منها. 

لن نذهب بعيدًا في التاريخ. فقط مائة وأربعة وخمسون عامًا للخلف لنرى كيف تصادف إعلان الدستور المصري في 1866 بإعلان الدستور التونسي في 1861. سبقت تونس مصر في أولى خطواتها نحو المأسسة والابتعاد عن حكم الفرد المطلق، وهكذا كان بعد مائة وخمسين عامًا. لم يكن الأمر مصادفة، فلقد أدت الضغوط الاقتصادية والسياسية المحلية والخارجية إلى احتياج الولاة إلى شراء رضا النخب المحلية بوضع إطار دستوري ينظم للحكم ويبرر فرض مزيد من الموارد المالية لتنظيم الموازنة المثقلة بالديون الخارجية. لم تمض فترة وجيزة، بمعيار ذلك الزمن، حتى استفزت إجراءات المأسسة والدسترة الداخلية القوى الخارجية المتربصة حتى دمرتها، في تونس أولًا ثم في مصر. ففي 1881، احتلت فرنسا تونس تلتها إنجلترا باحتلالها لمصر في 1882 بنفس الآليات والذرائع، تقريبًا.

كان استقلال تونس عن فرنسا في 1956 بعد أربع سنوات فقط من استقلال مصر في 1952، لترسخ لمفهوم ارتباط المصائر وتبتعد عن زلات الخطية التاريخية. في ملامحها العريضة، كانت السياسات الاقتصادية والاجتماعية بعد الاستقلال متشابهة، والتي أنتجت نفس الاختناقات والأزمات. حتى كان الانفجار التونسي في نهاية 2010 وفي مصر في 2011، تقريبًا لنفس الأسباب، فساد واستبداد وظلم واستعباد. ثم سعت قوى النظام القديم في البلدين وكذلك القوى الإقليمية والدولية إلى وضع حد للتغيير، نجحت في مصر بينما فشلت في تونس.

لا تتوقف المقارنات بين مصر وتونس. فهيكل الاقتصاد، على الرغم من عدم تطابقه، تقريبًا متشابه في ضعفه كما في تشوهاته وفجواته. فكلاهما في مرحلة التحول نحو الرأسمالية، ضعيف الإنتاجية، به عجز موازنة مرتفع، متحيز إقليميًا نحو المركز، مرتفع الفساد وعدم الكفاءة، مما أدى لعجزه المزمن عن توليد وظائف رغم معدلات النمو المقبولة. وأما سياسيًا، فحمل الحزبان الحاكمان قبل الثورة نفس الأفكار السلطوية والانحدار من أصول اجتماعية واقتصادية متقاربة من جهة تمثيلهم لقطاعات كبيرة من المجتمع تمكنهم من تحقيق استقرار للتنافسية السلطوية. على الرغم من الاستقرار السياسي الظاهري، فقد عانى النظامان من نقص الخبرات الكافية لإدارة اقتصاد متطور، وكذلك الأموال الكافية لدفع النمو وتحقيق العدالة.

سعت قوى النظام القديم في البلدين وكذلك القوى الإقليمية والدولية إلى وضع حد للتغيير، نجحت في مصر بينما فشلت في تونس

وأفرز تشابه النظم تشابهًا في النخب القديمة في كلا البلدين من جهة تمثيلهم للبيروقراطية والقضاء وطبقة رجال الأعمال والإعلام، وتمتعهم لفترات طويلة بامتيازات حصرية مكنتهم من جمع الكثير من الأموال، والأهم المعرفة بتفاصيل مؤسسات الدولة في علاقاتها الداخلية والخارجية في إطار غير مؤسسي مغلق. هذا الاحتكار للمال والسلطة، والأهم المعرفة، لفترات طويلة أدى إلى عجز النخب الجديدة عقب الثورات، بقلة معرفتها ومواردها وضعف تحالفاتها، على إدارة البلاد وقيادتها إما إلى الفشل فى الحالة المصرية أو الحاجة إلى التحالف مع النظام القديم في تونس من أجل تعويض نقص الموارد والخبرات.

يهتاج الكثيرون عند تقييم التجربتين، معزين النجاح والفشل إلى خيارات الأشخاص بعيدًا عن اعتبارات البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. مصر ليست تونس، هكذا سيحاجج البعض ويذكرون باختلاف الوزن النسبي للمؤسسة العسكرية ورجال الأعمال والأهمية في النظام الدولي. كل هذا صحيح، لكن يبدو أن التاريخ له رأي آخر. فلم تكن كتابة الدستور فى القرن التاسع عشر ولا الاحتلال ولا الاستقلال ولا حتى الثورات الأخيرة فى مصر أو تونس بسبب رشد الحكام ولا وعي النخبة فقط، لكن كل ذلك كان وليد تداخل عوامل محلية ودولية حاكمة لم ترحم ولن ترحم حتى أذكى الأذكياء وأتقى الأتقياء.

الآن وقد شاركتكم خاطرتي الشريدة، فآخر ما أرجوه لها أن تعزز تشاؤمًا أو ترسخ لعدمية، أو حتى أن تحسم جدلاً مطلوبًا حول منطق التغيير الإقليمي. فعلى الرغم من عبوس وكآبة الواقع الحالي فإن النظر إلى تفاعلات مصر وتونس التاريخية يلوح بأن الجديد وإن لم ينتصر بعد، فإن القديم لن ينتصر، أو هكذا أُسِرَ لي.

اقرأ/ي أيضًا:

الثورات وصعود التيارات الإسلامية

ثورات شبابية وشيخوخة سياسية