21-ديسمبر-2018

من الفيلم (Variety)

أصبحت العلاقة بين الجنس والحب في العالم المعاصر مثار جدل كبير، خاصة كونها تتفاعل مع معطيات جديدة كالسرعة وثقافة الاستهلاك والشراهة المتولدة من وجود عدد هائل من الخيارات المتاحة لدى الناس، وإحدى هذه الخيارات هو الجنس العشوائي السريع، أو ما يعرف بالعلاقات المفتوحة (open relationships) عبر تطبيقات المواعدة.

يسلّط فيلم "التجديد" ضوءًا على ما تفعله الحداثة بنا اليوم، وعلى الأثر الذي تتركه في العلاقات العاطفية

يسلّط فيلم "التجديد - Newness" ضوءًا على ما تفعله الحداثة بنا اليوم، وعلى الأثر الذي تتركه في العلاقات العاطفية، وعلى الجوانب السلبية التي يمكن أن نعاني منها. ويطرح موضوعًا شائكًا لطالما شغل اهتمام البشرية ألا وهو الحب، فالحب لا زال الفكرة المقدسة في العالم، فهل من الممكن أن تهدم الحداثة فكرة الحب النبيلة أم تعدله وتغيره نحو مفاهيم جديدة؟

قصة الفيلم

تدور أحداث الفيلم حول شخصيتين من جيل الألفية في مدينة لوس أنجلس المعاصرة. الشخصية الأولى مارتن ويلعب دوره الممثل نيكولاس هولت، وهو شاب جذاب يعمل كصيدليّ ولديه ميول لإقامة علاقات "الليلة الواحدة". في الجهة المقابلة نجد غابي وتلعب دورها الممثلة لايا لاكوستا، وهي تشبه كثيرًا مارتن حيث تميل أيضًا لعلاقات الليلة الواحدة، وفي صدفة أثناء البحث على أحد مواقع التواصل الاجتماعي يتعرفان على بعض، لكن سرعان ما تتحول فكرة الليلة الواحدة إلى مشاعر صادقة وتنشأ بينهما علاقة حميمية، ما جعل علاقتهما تتحول من العبثية إلى الجدية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Green Book".. دليلك لاكتشاف ذاتك بالآخرين

تحول لقاءهما من لقاء بهدف الجنس إلى ليلة رومانسية، يتعرفان خلالها على بعضهما البعض عاطفيًا، فيتناولان وجبة خفيفة في وقت متأخر من الليل، يشربان الكحول حتى موعد إغلاق البار، يلعبان ويتجولان حتى الفجر، ويشاهدان الشمس وهي تشرق. يتم تأجيل الجماع بينهما لليوم التالي حيث يلعب هذا التأجيل دورًا في توكيد العلاقة الإنسانية بينهما قبل العلاقة الجنسية. فهل يمكن أن يشكلا ثنائيًّا جديًا، وأن يلتزما بالعلاقة دون أن يكونا مجرد تجربة جنسية من التجارب التي يسعيان خلفها؟

مارتن وغابي اجتمعا من خلال تطبيق المواعدة السريع الذي جعل الحصول على الجنس تمامًا كطلب الديليفري، إلا أن لقاءهما كان مختلفًا، لقد أعجبا ببعضهما وتشاركا لحظات المرح، لكن سرعان ما تبطئ الأمور. ويكتشفان أن الصراع مع ذاتيهما ما زال قائمًا، فمارتن يميل إلى التغزل ومحاولة البحث عن فتاة جديدة، وغابي تعجبها فكرة أن يتغزل فيها شخص غريب باستمرار. كل شيء يسير على ما يرام حتى يبدأان بإخفاء الأشياء عن بعضهم البعض بمجرد أن يكون لديهم فرصة. لذا فهم يتفقان على أن يكونا في علاقة مفتوحة تسمح بوجود شركاء جنسيين آخرين.

يزرع الفيلم الألغام الأرضية في مسار الثنائي حيث يتنازعان حول العلاقة العاطفية مباشرة، في الوقت ذاته يريدان البقاء معًا، لذلك قررا أن يستكشفا تجارب جديدة بإذن بعضهم البعض. ويخلقان لعبة سرية مثيرة خاصة بهما حيث يلعبان دور المتلصصين اللذان يراقبان بعضهما البعض ويخوضان المغازلة مع أشخاص آخرين. لكنهما يكتشفان أن العلاقة المفتوحة تؤدي إلى كارثة أكبر حين تدخل الغيرة بينهما. هي تغار من شبح زواجه السابق الذي يلاحقه، وهو يغار من شريكها الجديد الذي تواعده.

الحب في زمن الحداثة؟

الفكرة المقدسة للرومانسية المثالية هي الزواج الآحادي، والفكرة نفسها قابلة للتفاوض في العالم المعاصر، حيث تضرب الحداثة كل المفاهيم والقيم وتعطيها أبعادًا جديدة. يشرح الفيلم الفارق بين المحادثة حول الخيانة، والمحادثة حول العلاقات المفتوحة، إذ ليست هي نفسها. لأن جوهر الخيانة هو الأسرار، فالخيانة منظمة حول سر، بينما مفهوم العلاقات المفتوحة يعني استكشاف تجارب جديدة مع أشخاص آخرين بشكل علني وغير سري.

الفكرة المقدسة للرومانسية المثالية هي الزواج الآحادي، والفكرة نفسها قابلة للتفاوض في العالم المعاصر

تقول الكاتبة في الفيلم أثناء المحاضرة حول الحب المعاصر "تلك الفكرة عندما أذهب للبحث عن شخص آخر ليس دائمًا لأنني أريد الإبتعاد عنك، بل لأنني أريد الابتعاد عن الشخص الذي أصبحت عليه، وذلك ليس بسبب أنني أريد البحث عن شخص آخر، لكن أريد إيجاد شخصية جديدة لي، وأعتقد أنه في صميم الكثير من العلاقات هناك أناس يحاولون التوفيق بين اثنان من مجموعات القيم، مجموعتين من الحاجات الإنسانية الأساسية، للحصول على علاقة واحدة تكون بمثابة المرساة وثانية تكون بمثابة موجات".

اقرأ/ي أيضًا: لارس فون ترير.. شاشة العُقد الجنسية

هكذا يمكن الحصول على الأمن والاستقرار والحصول أيضًا على الحرية والحكم الذاتي. وهذا التزواج غير المحتمل بين الشعور بالامتلاك من شخص ما، والشعور بالحرية مع شخص آخر، هو ما يشكّل التحدي الأكبر للحب المعاصر اليوم. والنصيحة التي تقوم الكاتبة بتقديمها للبطلان مارتن وغابي مفادها "اذا اعتبرتم العلاقة المفتوحة حالة لا تقتلكما بل تجعلكما أقوياء فلا بأس بذلك، لكن أريدكم أن تفكرا على أنها انعطافة أو التواء مرحلي، أو محطة عابرة وليست طريقًا مستقيمًا وسلوكًا دائمًا".

يخبرنا الفيلم أن العلاقات تغيرت في السنوات الماضية، وأصبح البشر يرون العلاقات من منظور مختلف خاصة مع دخول تطبيقات المواعدة عبر الهاتف، فالعديد من الأشخاص يبحثون عن مشاعر جديدة في العلاقات، وأصبح التفاعل مختلفًا بفعل ذلك حتى صار من الصعب الدخول في علاقة حميمية حقيقية.

غابي تترك صديقاتها في حانة عندما تتطابق مع شريك مواعدة مثير، تدق على بابه، يفتح لها، يقبلان بعضهما قبل التحية ويبدأ الجماع دون مقدمات لكنه يصل للنشوة بسرعة ويبتعد عنها. تسأله: هل تريد أن تنزل معي في نزهة؟ يجيب: لا، لقد التقينا للتو.

لكن كما هو الحال في الحياة الحقيقية، فإن الجنس العشوائي يجعل الأمر معقدًا جدًا. من الضرب على تطبيق المواعدة، ثم الوقوع في الحب، ثم الشعور بالملل في وقت أقرب بكثير من المتوقع، لحين اختبار علاقة مفتوحة، وتحمل نتائج العواقب التي تأتي معها. سوف تثير الحداثة في نفس الوقت الرغبة اللاواعية التي لا تقاوم في أن تقلب وجوه زملائك الوحيدين على هاتفك، لكن أيًا من هذه الوجوه لا يمكنها لعب دور التواصل الإنساني مع غابي أو مع مارتن، إذ لا أحد في الخارج يهتم بمشاعرك.

وحدهم من يحبونك بصدق يهتمون. لا شيء في الخارج سوى البرد، حتى ممارسة الجنس على السرير الجديد باردة. الحب نادر وصعب. الحداثة هي متعة في البداية فقط، لأن معظم العلاقات ستفشل في النهاية لأن الحب يمكن أن يصبح مشوهًا ومربكًا ومثيرًا للحزن في كثير من الأحيان.

هل يمكن التمادي بذلك؟

هناك صراحة مطلقة في العلاقات المفتوحة حيث يتفق مارتن وغابي على مواعدة أشخاص آخرين، مع الحفاظ على علاقتهما كعلاقة أساسية، وذلك لسد رغباتهما ونزواتهما الجنسية الباحثة عن تجارب جديدة. لا يقف البطلان هنا، لكن يتخطيا الصراحة المطلقة الى الإتفاق على مراقبة بعضهما البعض أثناء مواعدة كل منهما شخصًا جديدًا. تشكل المراقبة هنا إغراء وتجربة جديدتين.

كل هذه الإتفاقات المبرمة بين الشريكان حول الشفافية بينهما سرعان ما تنهار حين يدخل الحب وتصبح المشاعر سيدة الموقف، والحاكم الأول والأخير لسلوك الثنائي. فكيف يمكن لمارتن الاستمرار في هكذا اتفاق مع امرأة وقع في حبها وبدأ يشعر بالغيرة نحوها، وبدأ يحس أن خسارتها أصبحت قاب قوسين أو أدنى بفعل هذا الاتفاق. يقال في الأمثال الشعبية "لا تنام بين القبور حتى ما تشوف منامات وحشة"، وهكذا رمى الأبطال بنفسيهما في المجهول.

لا يستطيع الإنسان أن يمتلك كل شيء، وتجري هذه القاعدة على العلاقات، فالشريك لا يمكنه أن يحوز كل المتع من شريك واحد، والكبت يصبح ضرورة للحفاظ على العلاقة لأن الشفافية متعبة جدًا وسوف تصطدم مع مشاعر الشريك. تقول إحدى الشخصيات في الفيلم "أتعس الناس هم الذين لا يعرفون ماذا يريدون". هل من الممكن أن نلتزم بشريك واحد عندما يكون من الممكن أن الحصول على الجميع؟ هناك إغراء في الحداثة حيث إن لا نهائية الخيارات على الإنترنت يكاد يكون مثير بالنسبة لهما. ومع وجود الكثير من الأسماك في البحر فإن الكمال بالتأكيد، أو على الأقل شخصًا أكثر مثالية من هذا الشخص الذي وصلنا إليه للتو، لا يحتاج سوى الى بضع نقرات إضافية.

لا يستطيع الإنسان أن يمتلك كل شيء، وتجري هذه القاعدة على العلاقات

يظهر الفيلم كيف أن المدى القصير الذي تقوم عليه حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث، يقوم بتوليد الحاجات بشكل مستمر، وتحويل كل قديم الى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات. لماذا الانتظار؟ الحياة قصيرة. لكنهما جائعان للمزيد. يتغذى مارتن وغابي على ما هو جديد.

اقرأ/ي أيضًا: هل التمثيل مهنة سهلة؟

يهرب كل من مارتن وغابي من الروتين، وهما بالتأكيد ليسا أقوى من عدوهما الأسوأ: الحياة اليومية. هما ينظران إلى الحياة على أنها شهر عسل لا ينتهي. لذا يستمرون في اللعب بالنار. انهم يعتبرون أنفسهم مغامرين يرغبون في تجربة كل شيء. هم في الواقع شخصيات يائسة تبحث عن الاهتمام الدائم. لذلك إنهما يودان أن يبدأا كل شيء من جديد بلا أي تفكير في النهايات.

هل العلاقات المفتوحة تعمل؟ ربما، لكن العلاقات المفتوحة محكوم عليها بالانهيار والحرق. في بادئ الأمر يبدو الأمر كحرية، ولكن بعد ذلك يولّد الغيرة والامتلاك والريبة. تعود غابي الى مارتن، تعانقه، تقول له "لا أريد أحد غيرك، أنا واثقة من ذلك".

اقرأ/ي أيضًا:

 فيلم The Lobster: دكتاتورية المجتمع على الفرد

"السعداء".. فيلم يحكي عن تعساء