14-ديسمبر-2018

مقطع من ملصق فيلم Nymphomaniac

صدمة وتشويش

تعرّفتُ على أولى أفلامه عند قدومي لألمانيا في إحدى الكامبات المهجورة، في واحدة من أكثر الأماكن افتقاداً للأنوثة شاهدتُ أكثر فيلم به هذا الكمّ من الإيحاءات الجنسية.

كان ذلك تمامًا في نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2015 عندما قرأتُ مقالًا عنه باللغة الإنجليزية، وتولّد لديّ ذاك الدافع لأن أبحث عن أفلامه وأشاهدها.

المخرج الدنماركي لارس فون ترير: ربما الفرق الوحيد بيني وبين الآخرين أنّي دومًا طالبت غروب الشمس بالمزيد من الألوان الزاهية عندما كانت تذوب في الأفق ربما ذاك ذنبي الوحيد

المخرج والكاتب الدنماركي لارس فون ترير ​(Lars von Trier) له من العمر 61 عامًا، ومؤسس لحركة "دوغما 95" السينمائية مع المخرج الدنماركي توماس فنتربيرغ، وحاصل على العديد من الجوائز العالمية والمرشَّح لجائزة الأوسكار والغولدن غلوب عن فيلمه "راقصة في الظلام" (Dancer in the Dark) في 2001.

اقرأ/ي أيضًا: التانجو الأخير في باريس.. الجنس وسيلة للهروب

بالطّبع لم يكن من السّهل أن تشاهدَ أفلامًا كهذه على المواقع العربية، لكن يبقى استخدام بعض المصطلحات الخطيرة للبحث عن هكذا أفلام يسهّل العثور عليها.

أخيرًا وبعد طول عناء عثرت عليه تحت اسم: "شاهد فلم الشبق المثير للكبار فقط +18". تابعت الفلم وأنهيته لأكتشفَ أنّني قد تابعت الجزء الثاني منه أو كما يسمّى "المجلّد الثاني". نهضت مشوَّشًا، وحيدًا وخائفًا، لأوّل مرّة أدركت أنّ بعض الأفلام يجب أن تكون للفئة العمرية ما فوق الخمسين. الجرعة التي قدّمها الفلم من التساؤلات حول أكثر المواضيع حساسية كانت تفوق عمري، أنا ذو الاثني والعشرين عامًا، الذي لا يعرف إلا الجانب الوردي من الجنس.

الفلم يسرد قصّة الفتاة جو "Joe" مع صديقتها بي "B" ببداية فترة بلوغهما بدءًا من خسارة جو لعذريّتها ومن ثمّ تحوّلها لاحقًا لامرأة مصابة بالشبق الجنسي، وبرغبة جامحة في معاشرة كل الرجال، بل تغيّر ميلوها الجنسية لاحقًا لتصبحَ سحاقية. تتشابك الأحداث لتخسر جو عملها وتصاب بمرض جنسي، وينتهي بها الأمر مرميّةً في أحد الشوارع من قبل مجموعة في ليلة شتوية ماطرة، فيعثر عليها رجل مسنّ يدعى سيلغمان (Seligman) الذي تكتشف لاحقًا أنّه مصاب بالفتور الجنسي منذ صغره، لدرجة أنّه لم يمارس الجنس ولا العادة السرية في حياته، يأخذها إلى منزله وتسرد جو له كامل القصة منذ طفولتها وحتى عثور المسنّ عليها. في مشهد ختاميّ كئيب إلى حدٍّ بعيد، تقوم جو بقتل الرجل المسنّ بعد أن حاول اغتصابها وهي نائمة.

من أكثر الأطروحات الفلسفية التي تبيّن مدى تشابك المشاعر الإنسانية في الفيلم هي الجملة التي نطق بها المسنّ قبل إطلاق جو الرصاصة عليه: "لكنّك مارستِ الجنس مع آلاف الرجال".

فِيلمٌ يجمع أسمى أشكال السينما وأنقاها صورًا، ابتداءً بالحوار الفلسفي العميق المشبع بالرموز والتعابير، منتهيًا بسخرية القدر الذي جمع بين امرأة مصابة بالشبق ورجل مصاب ببرود جنسي، والذي يكون - إلى حدّ ما - أكثر من يمثّلك في الفلم لشدّة اندهاشه من التجارب التي مرّت بها جو.

حاولت عدة مرات قراءة اسم الفلم "Nymphomaniac" تمكّنتُ من حفظ اسمه بعد أن عرفت أنّ القسم الثّاني من المفردة هي شتيمة باللغة العربية.

هذه كان بداياتي مع عالم لارس فون ترير الذي صنّفتُه كأفضل مخرجي العصر، ومن أهم كُتّاب السينما بالنسبة لي، بما لديه من طريقة مختلفة كليًّا في التعامل مع الصورة وأسلوب عجيب في خلق الشّخصيات، والتي بدأت أشكُّ مؤخُّرًا بأنّها قد تكون مستمدة من الواقع بشكل كامل لشدة الترابط الجسدي والنفسي للشخصية.

أقولها دائمًا، في أفلام فون ترير لا تتوقع أن تفهم المخطئ والصائب، الخيّر والشرير، لأنّها كلها ليست سمات بشرية في رأيه، إنّما يحاول جاهداً جعلك تدرك بأنّ المخطئ الوحيد يقبع في السماء، والمشكلة - أشكّ أنّها قد تكون فعلًا مشكلة - أنّه يقنعك في نهاية فلمه. أظهرها فون ترير بجملة حوارية لجو من الفلم: "ربما الفرق الوحيد بيني وبين الآخرين أنّي دومًا طالبت غروب الشمس بالمزيد من الألوان الزاهية عندما كانت تذوب في الأفق ربما ذاك ذنبي الوحيد".

في أفلامه الشهيرة: Dogville ، Antichrist ، Nymphomaniac، من أكثر ما يشد انتباهي فيها، أنّ خط النهاية دائمًا ما يكون "ما لا تتوقعه وتتوقعه في نفس الوقت". لا تتوقعه لأنّك تشكّ بأنّه يفهم رغباتك إلى هذا الحدّ، وتتوقعه لأنّك ببساطة تشاهد أعمال لارس فون ترير.

هل أعماله متشابهة؟

في الحقيقة نعم، من حيث الجودة والنقاء تتأكد بأنّها نابعة من شخص واحد يملك رسالة معينة يريد إيصالها، ولكن حتمًا القصص منفصلة عن بعضها حتى لو ركّز على ممثليه المفضّلين من تشارلوت لوسي غاينسبورغ  وويليم دافو ومهما دارت قصصه حول نفس الهواجس الفكرية تبقى مفاجآته حاضرة في كلّ فيلم.

برأيي أكثر ما يميّز أسلوبه في الإخراج دائمًا ما تكون الافتتاحيات، فأنت كمهتمّ بالسينما لن تستطيع إطباق شفتيك وأنت تشاهد أول عشر دقائق من أفلامه، بالأخص مدخل فلمه "المسيح الدجال". لم أبكِ طوال حياتي أمام فيلم من أول خمس دقائق، لكنه كسر القاعدة. بمشهدٍ أبيض وأسود مبطّأ بغناء أوبرالي افتتح فون ترير فلمه "المسيح الدجال" أو "ضد المسيح" لزوجين يمارسان الجنس، بينما ابنهما الصغير الذي لا يتجاوز عمره العام يخرج من سريره ليفتح النافذة وينزلق من حافتها متهاوياً إلى الأسفل ملاقياً حتفه.

هل يمكن صناعة الأفلام على نهجه؟

بالحديث عن السينما العربية والرقابة الصارمة من قبل الجهات على المحتوى المطروح، يُبنى أول حاجز بين الكتّاب وعالم لارس، كونه يركّز بشدّة على الحوار والمشاهد الجريئة، فلو تطلّب فلمه مشهدًا لممارسة جنسية بين زوجين على جذع شجرة في غابة نائية فلن يبخل بذلك.

بينما يمكن اعتباره من أكثر الكتّاب الذين يملكون أسلوب سرد واضح من بداية الفلم لنهايته حتى لو أكثر من الإيحاءات والرموز، فلو تابعت كلّ أفلامه ستجد أنّك تستطيع تمييز لقطة مأخوذة من فلم له عن أيّ فلم آخر، سواء باهتزازت الكاميرا المقصودة أو بتكوين المشاهد واللقطات المقرّبة.

يوازن لارس فون ترير بشكل دقيق جدًا بين الكلمة والصورة ويحاول بشتى الوسائل كسر كلّ القوانين النمطيّة

كلّ هذا بالطّبع لا يضيف للفيلم كامل ملامح مدرسة فون ترير، فكونه من الأشخاص الذين وقّعوا على عريضة دوغما 95 يجعل من الواضح أنّ تركيزه الشديد يكون في محاولة تصفية الصورة البصرية وصناعة الفلم السينمائي بأقلّ التكاليف الممكنة.

هذا إضافةً إلى أنّه يوازن بشكل دقيق جدًا بين الكلمة والصورة ويحاول بشتى الوسائل كسر كلّ القوانين النمطيّة ما دام كان بالإمكان.

اقرأ/ي أيضًا: روبي روز.. "باتْوُمان" مثلية الجنس

أخيرًا إن توجّب عليّ ذكر نقطة سلبية في إحدى أفلامه، سأذكر بالتأكيد بعض المشاهد الختامية من فلم "المسيح الدجال" التي كانت عنيفة إلى حدّ بعيد ومؤذية للنظر. ولكن يبقى جواب السؤال غامضًا "أكان الفيلم واضحًا بدونها؟".

أودّ أن أقول أنّني أتابع أعماله بشغف ويبقى دائمًا تحليل أفلامه أكثر ما أستمتع به. لارس فون ترير مخرج وكاتب عظيم، وإنّه من الجميل أن تجد بعض المخرجين الذين ما زالوا يعتنون بالمحتوى الأدبي للنصّ وبالمقابل يركّزون على عناصر التشويق في الفلم، فالنتيجة النهائية ستكون بالتأكيد عملًا سينمائيًا فريدًا.

اقرأ/ي أيضًا:

كيف عبّر فيلم "موكب جنازة الورد" عن مثليي الجنس في اليابان؟

فيلم "ولايات الحب المتحدة".. الجنس كمدخل للسياسة