02-فبراير-2016

من الفيلم

في العام 1974 مشى الفرنسي فيليب بيتي فوق حبل معلق بين برجي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك، شخصية الرجل المهووس بقدراته وتفاصيل أخرى لا تقبل المصادفات، بالإضافة إلى أهداف المخرج الأمريكي روبرت زيميكس، كلها مجتمعة دفعت لإنجاز فيلم "The Walk" (2015). 

ثمانية أيام إلى جانب فيليب بيتي كانت كفيلة بتعليم الممثل جوزيف غوردون كيفية المشي على الحبال

فيليب بيتي الذي وُصِف عمله بالجريمة الفنية وثّق لتفاصيل منجزه من خلال الصور الفوتوغرافية، ثم لاحقًا في فيلم وثائقي حمل اسم "Man on Wire" (2008)، لهذا لم تكن غاية الفيلم التعريف بالرجل الماشي على الحبال فيليب بيتي، يظهر هذا في تصريحات المخرج زيميكس بأن هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر على برجي مركز التجارة العالمي تعتبر من بين الأسباب الرئيسية لتبني فكرة تصوير الفيلم، بالإضافة إلى أن أحداث الفيلم توفر بيئة جيدة للتقنية ثلاثية الأبعاد.

ثمانية أيام إلى جانب فيليب بيتي كانت كفيلة بتعليم الممثل الأمريكي جوزيف غوردون كيفية المشي على الحبال، الأمر الذي نقل عدوى تحقيق المستحيل من فيليب إلى جوزيف غوردون، وقد كان الأول قد اشترط أن يتمكن المؤدي لدوره من المشي على الحبال، حتى لو لم يصل الارتفاع إلى حيث هو الطابق العاشر بعد المائة. يجدر التنويه بأن الفيلم لم يعرض لفعل فني خارق للعادة دون أن يُظهر أعمالًا وتدريبات كثيرة سبقت المشي بين برجي مركز التجارة العالمي.

في السادسة عشرة من عمره يبدأ تعلق فيليب بالمشي على الحبال المشدودة، مؤديًا عروضه في شوارع باريس، وكان يتكسب من ذلك، لكن هذا الأداء البسيط لم يشبع رغبة الشاب في ذلك الوقت، الحبل المعلق داخل السيرك كان هدفًا مشوقًا لفيليب، وفي اللحظة التي وضع فيها قدمه على بداية الحبل قبض عليه "بابا رودي" (بن كنغسلي)، كان هذا الأخير هو رأس العائلة المتخصصة في شغف فيليب وهو المشي على الحبال، وعوضًا عن تلقيه للضرب أو اختياره للهروب قام فيليب بلفت أنظار بابا رودي إلى شيء خاص فيه من خلال تأدية بعض ألعاب الخفة، وفي أول درس بين المعلم والتلميذ رفض فيليب أن يتصرف بما يمليه عليه بابا رودي عن كيفية تحية الجمهور، ليختار الانسحاب لأنه فنان حسب قوله، ولن يكون مهرجًا كما يريد له معلمه، بهذا يكون قد فوّت فرصة حقيقية للتعلم.

تقول القصة الحقيقية بأن الماشي على الحبال كانت تفصله ست سنوات من التدريبات وجمع فريق مهتم بمشروعه الفني الكبير بين برجي نيويورك، لقد كان مدركًا منذ البداية بأنه لن يستطيع أن ينجز شيئًا وحده، ولحظّه السعيد ربما كان الذين اختارهم أصدقاء لمشروعه الشخصي أوفياء لفكرته وداعمين حتى لحظة الوقوف تحت سماء نيويورك. 

في البداية حظي فيليب بصداقة آني (شارلوت لوبون)، والتي قدمت له موقعًا للتدرب، كما أظهر الفيلم اعتماد فيليب على ثقتها به وبقدراته، أما صداقته بجون لوي (كليمون سيبوني) فلم تقتصر على كونه مصورًا يوثّق لإنجازات فيليب رغم أهمية هذا، لكن جون كان عقلًا إضافيًا إلى جانب فيليب، وقد تجلى هذا حين بدأ العمل الحقيقي على حلم نيويورك، حينها أتى جون بفكرة إطلاق سهم من أحد البرجين وصولًا إلى الآخر، لتبدأ بعد ذلك عملية مد كيبل الفولاذ على مسافة (42) متر، وهي المسافة بين قمتي برجي مركز التجارة العالمي، البرجين التوأمين كما يطلق عليهما، بالمناسبة نحن نتكلم عن ارتفاع يبلغ تقريبا (411) متر.

معظم الماشين على الحبال يموتون، لأنهم يتوهمون الوصول ولا يتأكدون من ثبات خطواتهم الأخيرة

في المرة الثانية التي عاد فيها فيليب يطلب معلومات دقيقة تضمن الوقوف على الحبل دون مفاجآت، لم يكن بابا رودي جاهزًا للتعاون بمنح أسرار مهنته بالمجان، لذلك كانت البداية مشروطة بالمال، مقابل كل معلومة جديدة كان فيليب يدفع، بالإضافة إلى التأكد بنفسه من العقدة وتوتر الحبل كانت المعلومة الأكثر أهمية أن معظم الماشين على الحبال يموتون، لأنهم يتوهمون الوصول ولا يتأكدون من ثبات خطواتهم الأخيرة، هذه النصيحة لم يستهن بها فيليب أبدًا، ربما لأجل هذا لم يكن من بين من ماتوا، رغم أن الفيلم يوهمك بثقة فيليب الزائدة بنفسه، الأمر الذي يجعلك في شك من قدرته على التدقيق في التفاصيل. 

سجّل فيليب نجاحه الأول بالمشي بين برجي كاتدرائية نوتردام في باريس (1971)، ورغم أنه اعتقل لممارسة فعل غير قانوني، لكنه كان يضع في رأسه الخطوة التالية، ألا وهي نيويورك. يبرر الفيلم استخدام فيليب للإنجليزية بأنه كان يجب أن يختلط بالمجتمع الأمريكي، وقد كانت اللغة ضرورية للتعامل مع موظفي مشروع مركز التجارة، حيث أن البناء لم يكن قد انتهى، وهذا ما كان يريده فيليب بالفعل، أن ينفّذ مهمته قبل الانتهاء من العمل في مشروع البرجين. الممثل جوزيف غوردون اضطر أيضا لتعلّم الفرنسية إلى حد ما بالإضافة إلى تعلّمه المشي على الحبال.

في نيويورك، كان العمل ضمن فريق متكامل أمّن دخول الجميع بهويات مزيفة إلى داخل البرجين والتنقل بين الطوابق، كل هذا التنظيم كان ضامنًا للتخطيط الممتاز لعملية الصعود إلى الطابق الأخير، لكنه لم يضمن عدم إصابة فيليب نفسه بجرح في قدمه، حيث أن مسمارًا سبب له جرحًا لا بأس به، هذا أيضًا لم يكن سببًا للتراجع قبل أسبوعين وأكثر من موعد التنفيذ، أما عن مشهد الفيلم الذي أظهر قدم فيليب نازفة أثناء سيره على الحبل بين البرجين فلم يرد في القصة الحقيقية، أما عن الجرح فقد حدث حقيقة كما تم تصويره.

لقد مشى فيليب على الحبل بين برجي مركز التجارة تمامًا كما أراد، ولم يقتصر الأمر على جولة واحدة ليسلّم نفسه بعدها إلى أذرع رجال الشرطة الذين انتشروا على السطح في الجهتين، إنما كانت ثمانية جولات تخطف أنفاس المشاهِد رغم معرفته بالقصة الحقيقية ونجاة فيليب، لقد استلقى فيليب على الحبل، انحنى، وأدى حركات يصعب تخيل القدرة على أدائها بتلك الجرأة على ارتفاع ليس بالقليل حقا، إذ يمكن أن تنجح في دراسة خطة كهذه دون أن تُغفل إمكانية حركة البرجين لضمان استقرارهما الهندسي، كما يمكنك تمرير الكيبلات وتثبيتها جيدًا، لكنك أبدا لن تستطيع المشي على قمة برجين دون أن تكون واثقًا من قدرتك ومن حلمك. يمكن اعتبار عبارة "الفنانون الحقيقيون ثوريون بالضرورة" جوابًا مقنعًا في معرض السؤال عن الدافع من وراء هذا الفعل المقرون بالفن.

اقرأ/ي أيضًا:

الصحفي في السينما.. متن يبحث عن هامش

فيلم Room.. الحياة بمقاسات أقل