18-يناير-2016

من الفيلم

دوني فيانوف مخرج كندي اكتشب شهرة واسعة في السنوات الأخيرة لتقديمه ما يمكن اعتباره سينما فنية تجارية. في 2013 ظهر واحد من أشهر أفلامه، "سجناء" الذي شهد التعاون الأول بينه وبين مدير التصوير روجر ديكنز، هذا الأخير يدين له الفيلم بالكثير من الجماليات البصرية التي شغلتنا عن الضعف النسبي للكتابة والحبكة.

في "سيكاريو"، تدرك العميلة الشابة انتفاء التوافق بين المعركة ضد عصابات الجريمة المنظمّة والامتثال للقوانين الوطنية والدولية

في جديده "سيكاريو"، وتعني قاتل مأجور باللغة المكسيكية، المكتوب بواسطة الممثل تايلور شريدان في أولى تجاربه التأليفية، يبدو أن فيلانوف قد وجد أخيرًا الأرض النصّية المناسبة لإنجاز فيلم متماسك برؤية شكلية مبهرة وقليل من الاستذكاء السياسي.

"سيكاريو" واحد من هذه الأفلام التي تستولي على مُشاهدها رغم إنّه في الأخير فيلم تجاري. من بدايته يخطف الفيلم الأنظار بإشهادنا على عملية مداهمة يقودها مكتب التحقيقات الفيدرالي على مخبأ لخاطفين يٌفترض انتمائهم إلى أحد كارتلّات الجريمة المنظمة. خلف الأفراد المدرّعين، تقف كيت ماسي (إيميلي بلنت)، ضابطة شابة واعدة تضمّنت معظم عمليات إنقاذ الرهائن التي شاركت بها أشخاصًا محتجزين من قبل العصابات المكسيكية العاملة على الأراضي الأمريكية بهدف الحصول على فدية مالية. هذا التفصيل السردي في مفتتح الفيلم يفترض أن الخطّ الفاصل بين الشمال المتحضّر والجنوب الفوضوي قد تمّ اختراقه، وبالتالي يستدعي تدخُّل رجال الشمال الأقوياء لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي.

ثمّة مشاهد كثيرة في الفيلم تستدعى الإعجاب كان مصدرها كاميرا روجر ديكنز. أول تلك المشاهد هو مشهد المداهمة الذي تعهّده جمال قاس متألق بفضل أشعة الشمس التي فاضت على المشاهد الطبيعية المصوّرة في لقطات جويّة تبهر العين الناظرة. أفلمة العملية جاءت دقيقة ومعزّزة بموسيقى تؤكّد واقعيتها من توقيع الآيسلندي يوهان يوهانسون. أربعون جثة يتمّ اكتشافها مُخبّأة في الجدران وبينما يظنّ الجميع أن الأمور قد حُسمت، تدلي كيت باكتشاف هائل. ومدفوعة بالقبض على واحد من الحيتان الكبيرة المسؤولين عن القيام بما اكتشفته لتوّها؛ يتم تجنيد العميلة الشابة بواسطة عميل غامض (غوش براولين) لحضور عملية سرّية يشارك فيها زميل أجنبي (بينيثو ديل تورو) على نفس القدر من الغموض.

يقود التحقيق كيت إلي الحدود المكسيكية؛ ومجبرة على العمل في إطار الشرعية القانونية تدرك العميلة الشابة انتفاء التوافق بين المعركة الحامية ضد عصابات الجريمة المنظمّة والامتثال للقوانين الوطنية والدولية. وهنا يكمن ذكاء السيناريو الذي يلقي بواقع معقّد في وجه بطلته المثالية، لتجد كيت نفسها خارج حدودها الرسمية في مهمة غامضة وغير قانونية، وتكتشف فساد القائمين على إنفاذ القانون، ويُستبعد زميلها الأسود من الالتحاق بصفوة التحرّيين الفيدراليين، وتكتمل الدائرة بشريكيها اللذين يمثّلان قمة جبل الجليد لذكورية زملائها الذين يعتقدون أن هذا العالم وُجِد ليقوده الذكور.

يقول فيلم "سيكاريو" إن طريقة أميركا في حربها مع العصابات تجعلها تتماثل مع قبح ووحشية وإجرام العصابات نفسها

"في هذه الحرب، ما من حدود بين الخير والشرّ" يخبرنا تريلر الفيلم، وحقًا تتطلب تلك الديوراما (Diorama) من شخصياتها التفكير فيما وراء البعد الأخلاقي. العديد من العناصر يتمّ تقديمها بصريًا كدليل على استحالة الفصل الواضح بين الخير والشرّ. نشير إلى المشهد الهائل الدلالة حين يختفي أفراد قوات النخبة من الجيش الأمريكي في الأفق عند مغيب الشمس، وبالانضمام إلي الظلام الدامس يعملون مع نظارات الرؤية الليلية التي تطمس التناقضات اللونية وتكشف لهم "العالم الرمادي" جاعلة من المستحيل التمييز بين الأفراد.

تهبط إذًا كيت بمظلتها في "أرض الذئاب" حيث يبدو الرجال الصالحون أحيانًا مثل المجرمين والعكس بالعكس، أرض يُسمح فيها للجميع باطلاق النار. من هذا المنظور يستدعي "سيكاريو" فيلم كاترين بيغلو " ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل" وحكايته عن محاولة المخابرات الأمريكية القبض على زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. 

على الرغم من البطولة النسائية المختلفة، يُسائل كلا الفيلمين ضرورة الشرّ ويقدّمان صورة قاتمة لسياسة الولايات المتحدة؛ في حربها على الإرهاب في فيلم بيجلو وحربها ضد كارتلّات المخدارت في فيلم فيلانوف. يتجرّأ الفيلمان دون هوادة على تمثيل العنف الذي يؤتي أُكُله في التحقيقات (في سيكاريو لدينا بعض مشاهد التعذيب، حتى ولو تمّ ذلك بعيدًا عن الكاميرا) وبشجاعة ومهارة يقدّمان (بالتحديد سيكاريو) درسا معقّدًا حول الشرعية في الحرب ضد الجريمة. وبينما لا يأتي "سيكاريو" بجديد حول الآثار طويلة الأمد لحرب المخدرات المكسيكية على الولايات المتحدة، يقترح فيلانوف ببساطة أن التدبير الوقائي الوحيد الذي تقوم به أميركا هو تماثلها مع قبح ووحشية وإجرام العصابات نفسها. رسالة لا هوادة فيها وفاضحة للكثير.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم Room.. الحياة بمقاسات أقل

فيلم "الليلة الكبيرة".. بحث ممل عن الإسلام الوسطي