02-يوليو-2016

أفيش الفيلم

ليس من الغريب أن تتابع فيلمًا للمخرج المعروف بيدرو ألمودوفار دون أن تأسرك الألوان المشبعة بما يريد أن يقوله، وضمن أنساقه اللونية الممتدة مكانيًا وزمانيًا داخل تفاصيل الحكاية يرصد أبطاله في رحلة بحثهم التي يسميها فيلم.

تلك الحكاية التي باتت تُعرف بعد تراكم بصري وحسيّ على أنها ألمودوفارية. فتركت صدى في تاريخ السينما وأصبحت كأعراف سينمائية متفق عليها، حتى صارت صفة الفيلم الألمودوفاري صفة مميزة للحديث عن كل فيلم ملون.

صارت صفة الفيلم الألمودوفاري صفة مميزة للحديث عن كل فيلم ملون

اقرأ/ي أيضًا: ميريل ستريب: أنا لست دومًا سعيدة

غالبًا ماتبدو تلك الشخصيات الثرثارة ملونة غاضبة تسعى للبحث والسؤال، أما في فيلمه الأخير "خوليتا"، فقد بدا الأمر أقل حديّة في محاولة تسليم قدرية نشاهدها عند البطلة في مراحل مختلفة من عمرها. حين تبدأ بكتابة مذكراتها في لحظة متأخرة من زمن الحكاية المروية، تكون فيها قد سلمت أمرها بصمت محاولةً أن ترمي على المتفرج تلك الحكاية بشذرات متتالية.

شكلت المصادفة مفرقًا هامًا تعود إليه دائمًا، مرةً للتذكر ومرةً لتجميل الواقع هربًا. هي التي تقوم مجمل حياتها على سلسلة مصادفات تُشكل جزءًا كبيرًا من المفاصل الأساسية لكل أحداث الفيلم.

مجموعة علاقات ليست غريبة بل جاءت مكملة للعالم المشبع بالألوان، الذي حاول التجاور مع عالم الكاتبة الكندية أليس مونرو التي اعتمد ألمودوفار على مجموعة قصصية لها، وهذا مابدا واضحًا حين استأثرت اللغة الغريبة على ملامح الفيلم الجديد. 

بين الثرثرات الاعتيادية المألوفة تقرر خوليتا أن تواجه قدرها المتمثل بفقدان أقرب الأشخاص لها زوجها وابنتها، بعد محاولة تناسي الألم وفهم هذا الفقد ومعالجته في يومياتها.

رحلة صغيرة ترتب الحكاية

تلتقي خوليتا مع زوجها خلال رحلة في القطار بعد وقوع حادث انتحار شكل نقطة تحول في عالمها القادم، فهي لن تنسى هذا الشخص وهذه الحادثة، وهكذا ستكون الأخيرة سلسلة الفقدان التي انفلتت أمامها وكان عليها مواجهتها، كل ما يحدث يجعل من الفقدان سببًا لهشاشة وضعف تعاني منه مما يجعلها مختلفة عن عالم المرأة الألمودوفاردي، كما اعتدنا عليه في كل شيء عن أمي وفولفير.

بعيدًا عن صورة الأم التي يقول عنها ألمودوفار بأنها بحجم الكون والحياة، حين صور فيها الكثير من الشجاعة والحيوية، أما هنا فترك خوليتا معزولة في شقتها وفي خيالها ومخاوفها، أكثر عاطفية وأكثر ضعفًا.

لا يقدم الفيلم إجابات، فقط يحاول رصد محاولة العيش بما يحقق جزًءا صغيرًا من التوازن

مستمرة في الكتابة تكمل رحلتها بصمت، كما كان مقرر تسمية الفيلم، صمت على غرار قصة مونرو، وإذا لم يكن فهو بقي العلامة الفارقة في رحلة البحث والسؤال هذا.

لماذا أفقد أقرب الناس إليّ وأحبهم إلى قلبي؟ الزوج والابنة وحتى الأب والأم. حينًا بسبب الموت وحينًا بسبب الهجران. لاتجيب خوليتا ولا يقدم الفيلم إجابات، فقط تحاول أن تعيش بما يحقق لها الجزء الصغير من التوازن. طالما تحاول وطالما تفشل.

بعد أن علمت أن ابنتها التي تركتها منذ وقت طويل جاءت إلى المدينة، تعود إلى البيت الذي هجرته بعد رحيلها، تلغي خطة انتقال من مدريد كانت قد صممت لها مع صديقها، وهكذا تعود لتتذكر سبب الهجران والبعد الذي تدور حوله ولا تعرف له سببًا، فإذا تحدث الجميع وثرثروا هي لا تستطيع التحدث، وبذلك لن تعرف وستبقى عالقة في تلك الألوان المتغيرة وذلك الصمت، كل ذلك يجعل منها امرأة صامتة، ونراها تتدرج بين الفتاة المفعمة بالحياة عند التقائها بحبيبها إلى كائن صامت بعينين دامعتين.

اقرأ/ي أيضًا: أليس" على طرف الجحيم"

وبالعودة إلى أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها حساسية حين كانت تمارس الجنس مع حبيبها في القطار وقد انعكس خيالهما على الزجاج المقابل بعد حادثة الانتحار وبعد أن تأملت طويلًا غزالًا يركض معهم، هناك عندما كانت تنظر بعيون الحائر المكتشف تبدلت بعد أن حممتها ابنتها وصديقتها في مشهد آخر ليبدو هذا الاستحمام الضروري لتثبيت واقع التغيير، فكبّر خوليتا أعوام من الحزن غيّر ملامحها وأوقعها في عقدة الذنب غير المنتهية.

التنقل والسفر، البحر والقوارب، الريف والمكان البعيد، سيارات وباصات كلها عناصر الوصول والرحيل التي تبدو مثل تفاصيل صغيرة من حياة خوليتا المعقدة، ترصد حركتها التي تزداد صعوبة كلما ازداد وقع الألم والفقد، وتتسع الهوة بينها وبين المكان البعيد، حتى والدها الذي تحتاج رؤيته لا تستطيع السفر إليه.

بات اليوم على المتفرج للفيلم الجديد أن يذهب معه إلى هناك. حيث الانحدار والإحباط الذي يرسم خط حياة 

كل ذلك جعل من البطلة امرأة كثيرة الوجوه كثيرة التنقل وصامتة. تتغير خوليتا على الدوام لكن بعد الفقد تستطيع أن ترى أن التغيير هذا اقتصر على العمر الذي غير وجهها بعد أن عجزت عن النسيان، فشكل مرادفًا حسيًّا للصمت والحركة وحتى على شكل الحكاية المرويّة، فبات اليوم على المتفرج للفيلم الجديد أن يذهب معه إلى هناك. حيث الانحدار والإحباط الذي يرسم خط حياة خوليتا غير قادرة على تغييره، حتى أنها فقدت حيويتها ونشاطها في مواجهة ذلك.

وهنا البرتو أغليسياس مرة أخرى القادر على تحويل روح الفيلم إلى نغمة، المؤلف الموسيقي الذي رافق ألمودوفار في الكثير من أعماله، رافق خوليتا أيضًا في أزمتها وحلمها.

مدرّسة الأدب الكلاسيكي تلك لاينتهي دورها إلاّ بحكاية عن القدر والعقوبة، بعد أن حاولت إعادة هيكلة الحكاية لفهمها ولم تستطع، تعيش حبيسة القدر في تتابعه الطبيعي حينًا والمصيري في الكثير من الأحيان، تنظر إلى البحر بعد موت الزوج خلال حدوث عاصفة كبيرة وغرق مركبه، تتأمل كيف لوّن القدر حكاية الصمت تلك. ينتهي الفيلم وخوليتا تتأمل ولكن مع القليل من الغفران.

اقرأ/ي أيضًا: 

يوسف الإمام.. جمهور المراهقين المصريين هم هدفي

"القنّاص الأمريكي".. قنّاص الخدع