03-سبتمبر-2023
بوستر الفيلم وأبطاله (الترا صوت)

يقدّم الفيلم حكاية ملحمية من دون أسلحةٍ وأبطالٍ خارقين (الترا صوت)

يصف الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر الملل بما هو الضباب الصامت، بينما يرى شوبنهاور أن الحياة تتراوح بين الملل والمعاناة. وما يفعله المخرج الإيرلندي مارتن ماكدونا في فيلمه الأخير "جنيات إينيشرين" (The Banshees of Inisherin) هو تقديم معادل بصري لضباب هايدغر، وملل شوبنهاور.

يقدّم ماكدونا في هذا الفيلم حكاية ملحمية من دون أسلحةٍ وأبطالٍ خارقين، فضباب الصمت وحده قادرٌ على تدمير الرتابة وخلق عالم جديد لأبطاله وشخصياته التي أدت أدوارها بشكلٍ ممتاز. ولا يأتي اختيار المخرج الإيرلندي لإحدى جزر بلده مسرحًا لأحداث الفيلم من فراغ، إذ استثمر أساطير البلد في بناء حكاية الفيلم، وهذا ما نلاحظه في عنوانه، فـ"بانشي" تعني في الفلكلور الإيرلندي الشؤم، أو الروح التي تُنذر الآخرين بالموت.

يروي الفيلم قصة عجوز قرر قطع علاقته بصديقه بسبب ملله منه ورغبته في تأليف لحن موسيقي يخلّد اسمه في التاريخ

وسبق أن قال ماكدونا إن إيرلندا هي الجنة أو الفردوس، وقد ترجم ذلك في الفيلم من خلال تصويره لها ولمناظرها الطبيعية بطريقة مذهلة رغم الحرب الأهلية والدمار على الجهة الأخرى من ساحل الجزيرة التي تدور فيها أحداث الفيلم، حيث يصل إلى مسامع سكانها أصوات المدافع ويرون دخان الحرب، لكن من دون أن يفهموا لماذا يتقاتل الناس هناك.

انعكست هذه الحرب على علاقة كولم (برندان غليسون) العجوز بصديقه الساذج بادريك (كولين فاريل)، إذ قرر كولم فجأة قطع علاقته بصديقه بحجة أنه شخص ممل، وأنا صداقتهما هذه لا نفع منها، خصوصًا أن كولم لم يتبق من حياته الكثير، وأن مصيره الموت. ولكن قرار كولم فاجأ بادريك وجميع سكان الجزيرة، ومن هنا تبدأ حكاية الفيلم.

يذكر شوبنهاور أنه حتى لو كان العالم فردوسًا من العسل، فإن الرجال سيموتون من الملل أو يقتلون أنفسهم. وهذه الجملة جوهر الفيلم نفسه، حيث يحاول العجوز كولم أن ينال طعم الخلود بتأليف لحن موسيقي في سنواته الأخيرة، ولذلك يقطع علاقته بصديقه الساذج بادريك الذي يجره لمحادثات لا قيمة لها حول روث الحمير.

في هذا السياق، يضعنا ماكدونا، بعنف، أمام معضلة الملل والموت والخلود عندما يتعهد كولم بقطع إصبع من يده إذا لم يتركه بادريك وشأنه، وهكذا تحولت الجزيرة التي تشبه الفردوس إلى مسرح للشر بعد أن تحوّل بادريك من شخص طيب، إلى آخر محطم ناقم على الآخرين بعدما غادرت أخته البلدة، وقطع صديقه الوحيد علاقته به. والأماكن التي نراها في فيلم ماكدونا لا تظهر جماليتها أو وحشتها من خلال صورتها فقط، وإنما من خلال إسقاطات مشاعر الأبطال عليها، لأننا أينما ذهبنا سيرافقنا ظرفنا الإنساني وصراعنا الداخلي.

يكشف مارتن هايدغر عن معنى الوجود انطلاقًا من العدم، وبناءً على تجربته الخاصة مع القلق وسؤال الموت. ففي دراسته للوجود والعدم، انطلق الفيلسوف الألماني من دراسة الموجود (الذي هو الإنسان) لدراسة ماهية الوجود، حيث يرى أن الذات ليست ذاتًا مستقلة تمام الاستقلال، بل وعلى العكس من ذلك تتواجد مع ذوات أخرى.

فالإنسان، حسب هايدغر، يتميز بوجودين، الأول مع العالم والثاني مع الآخرين، وقد قسّمهما إلى وجود حقيقي وآخر زائف. وتبنى ماكدونا في فيلمه فلسفة هايدغر هذه من خلال شخصياته، إذ يمثل كولم الوجه الحقيقي الذي هو بدوره موجه بمشاعره الشخصية تجاه العالم لا الأفراد، حيث ينفر من مصاحبة بادريك والآخرين، بينما يحاول جاهدًا أن يخلّد اسمه في التاريخ البشري، وألا يُنسى كأي شخص آخر عاش ومات ولم يعرفه أحد، على العكس من بيتهوفن الذي ظل يتذكّره ويُذكِّر الآخرين به طوال الفيلم. أما بادريك، فيمثل الوجه الآخر من الوجود، أي الوجه الزائف.

وهذا ما يعتبره هايدغر الوجود النمطي الغارق في الحاضر، حيث ينفصل الشخص عن اختياراته الذاتية وإمكانياته الخاصة، ويُصبح تابعًا لإرادات الآخرين، ويسقط في حالة الاغتراب التي ينعزل فيها عن ذاته ويتحول وجوده إلى شيء غريب عنه. فالحياة اليومية، على سبيل، المثال تُفرغ الذات من وجودها الحقيقي، وتُصبح مهددة من طرف الآخرين ولا تشعر بوجودها الحقيقي.

يقدّم "جنيّات إينيشرين" حكاية ملحمية من دون أسلحةٍ وأبطالٍ خارقين، فالصمت وحده قادرٌ على تدمير الرتابة وخلق عالم جديد لأبطاله

تقدّم سينما ماكدونا أسئلة حياتية مريرة، وتتأرجح هذه الأسئلة بين الثنائيات المتضادة، كالجد والهزل، الحياة والموت، الرغبة والكسل. ففي نهاية الفيلم، تنتصر الأسطورة "بانشي" وهي تأخذ روح الفتى دومينيك بعدما انزلقت قدماه في النهر. ودومينيك يشبه كثيرًا حماقات بادريك وجدية كولم وبراءة الحمارة جيني، التي اختنقت بأصابع كولم الذي دمّر الفردوس بدافع الملل وخوفًا من النسيان.

يُذكر أن الفيلم ترشّح لثماني جوائز غولدن غلوب، وفاز بثلاثة منها، حيث توِّج بجائزة أفضل فيلم كوميدي أو موسيقي، وجائزة أفضل سيناريو لكاتبه مارتن ماكدونا، وجائزة أفضل ممثل كوميدي التي نالها بطله الإيرلندي كولين فاريل.