06-نوفمبر-2022
فلسطينية في غزة

فلسطينية في غزة

عرفته منذ كنت في العاشرة، تربطنا صلة قرابة وجوار. أحببته وأحبني، كما يحب كل الأطفال في سننا هذه بعضهم بعضًا. نحلم بزواج وأولاد، وبيت صغير تغمره الألفة والدعة. هذه العلاقة المألوفة استمرت طوال عشر سنوات. كنا خلالها نطور مشاعرنا حيال بعضنا بعضًا، ونحول الحب الذي كان في بدايته عبارة عن مشاهد متخيلة، إلى حب تحتله المشاعر الحارة وتجتاحه أفكارنا عن وقائع الحياة المشتركة بين حبيبين أو زوجين.

لم يطل الأمر كثيرًا، أصبح الحبيب مطاردًا، يعيش متخفيًا، ولم أعد أملك أن ألقاه ساعة أشاء أو أطل من نافذتي على مدخل داره وأراه، وأطمئن أنه ما زال حيًّا في الجوار

حبيبي الذي بات يشبه توأمي سرعان ما انخرط في المطحنة التي تطحن الرجال والشباب الفلسطينيين. ما أن بلغ أشده، قبل ذلك حتى، في سني مراهقته، بات مجبرًا على التفكر في أي مستقبل ينتظره، في ظل تفكك عام في الاجتماع السياسي الفلسطيني، وفي ظل خضوع لسلطة احتلال لا تعترف بالفلسطينيين كبشر أو حتى كحيوانات أليفة. وضع الفلسطيني صعب، ولا يمكن صوغ هذه المعاناة بكلمات مناسبة، ربما لذلك نلجأ غالبا إلى الحديث عن رغبتنا بالموت والاستشهاد، لأن ما نواجهه لا يمكن وصفه، إلا بعبارة مواجهة الموت أو تمنيه.

لم يطل الأمر كثيرًا، أصبح الحبيب مطاردًا، يعيش متخفيًا، ولم أعد أملك أن ألقاه ساعة أشاء أو أطل من نافذتي على مدخل داره وأراه، وأطمئن أنه ما زال حيًّا في الجوار. في هذه المرحلة من سني حياتي الطويلة، مقارنة بعمره القصير، بتُّ أحبه أكثر. أحبه كأم، كزوجة، كأخت، كصديقة. كنت أشعر أنه يعيش حقًا في قلبي وأحشائي. وكنت على أتم الاستعداد لأن أجهش بالبكاء ما أن أتذكر وجهه أو حديثه أو حركات يديه وهو يتناول طعامه، وهو يدخن، وهو يحادثني. البكاء في هذه الأوقات ليس تعبيرًا عن الحزن. إنه على وجه من الوجوه، بكاء من يشعر أن الدموع أطفال ضئيلة الحجم وقادرة لو أحسنّا التفاهم معها أن تتحول إلى أبنائنا وبناتنا. رحم ينجب دموعًا، ودموع تتحول مع الوقت إلى حكايات وذاكرة، لأشخاص ولدوا من أرحامنا وبذلنا كل ما بوسعنا لنلدهم مرات ومرات.

مرت سنوات على غيابه. غيبته طلقات المحتل. ولم أعد تلك الفتاة الصغيرة التي تنتظره. وفاء لذكراه، صرت أبحث عن رجل آخر، أستطيع أن أكون أمه وزوجته وأخته وابنته، لوقت قد يطول إذا ما حالفنا الحظ، وهو غالبا يعادينا، وقد يقصر في معظم الأحوال. كما لو أن قدر الفلسطينيات أن يعشن حيواتهن وهن يودعن رجالهن الواحد تلو الآخر. كما لو أننا منذورات لأن نكون حبيبات وزوجات وأمهات لأكبر عدد ممكن من الرجال. ذلك أن الوقت الذي يستطيع فيه رجالنا أن يكونوا آباء وأزواجًا وإخوة يكاد لا يتجاوز غمضة عين. وحدنا نحن النساء من يحملن على أكتافهن هذه المهمة الثقيلة، مهمة أن نسمح للرجال بالعيش في أحشائنا بعد استشهادهم.