01-نوفمبر-2022
من جنازات شهداء نابلس

من جنازات شهداء نابلس

1

التمرّد يأتي على وجنات المدن كالتورّد، يُضفي عليها حُمرة واشتعالًا جميلًا، هذا ما عرفته وتأكّدتُ منه وأنا أمشي في شوارع نابلس في الأيام الأخيرة، فالحصار الذي فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلي على المدينة وبدأ في تاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر، واستمرّ لمدة 18 يومًا (في ليلة 28 تشرين الأول/ أكتوبر بدأت قوات الاحتلال بتخفيف إجراءات الحصار عن نابلس وقد تُعاودها من جديد)، وقامت إثره بإغلاق جميع الحواجز العسكرية المؤدية إليها جعل منها مدينة معزولة عن محيطها من مدن وقرى أخرى.

رفض أهل نابلس المساومة على تسليم المقاتلين من مجموعة "عرين الأسود" للاحتلال مقابل رفع الحصار عنهم، حيثُ رفعَ تجارها شعار "بالمال ولا بالرجال" 

كنتُ أمشي في شوارعها الفارغة وأفكّر ببطولة أهلها وتجارها الذين رفضوا المساومة على تسليم المقاتلين من مجموعة "عرين الأسود" للاحتلال مقابل رفع الحصار عنها، حيثُ رفعَ تجارها شعار "بالمال ولا بالرجال" في إشارة واضحة وصريحة إلى استعدادهم للتضحية بالمال في مقابل حماية أبنائهم وفلذات أكبادهم من رجال العرين؛ خطرَ على بالي ذلك المقطع الشِعري لأمل دنقل الذي يَقول فيه: "المجدُ لمن قال لا في وجه من قالوا نعم"، ابتسمت عندما تذكّرتُ أنّ دنقل قاله في تمجيد فعلة إبليس في رفضه الأمر الإلهي بالسجود أمام آدم، وقلتُ في نفسي ربّما إنّ روح التمرّد والثورة الإبليسية التي تسكن نابلس هي أجمل أرواحها على الإطلاق.

2

في تاريخ 23 تشرين الأول/أكتوبر، استفاقت نابلس على حادثة اغتيال المطارِد تامر الكيلاني، تمتّ عملية الاغتيال بزرع دراجة نارية تحمل عبوة ناسفة في منطقة في البلدة القديمة كان يمرّ بها، في هذا اليوم وبعد جنازة مهيبة للشهيد شارك فيها أهالي المدينة، وعندما كنتُ أستمعُ لآذان العصر تحديدًا، كنتُ كمن يُعيد اكتشاف الحزن المستقرّ في صوتِ مؤّذن المدينة منذ الأزل، كنتُ أستمعُ إليه كأصمّ عاد إليه السمع فجأة، فأخذ يستمعُ إلى الأصوات لأوّل مرة، اندفع صوت المؤذّن في أذني كدفق من شجن لانهائي، امتزجت في صوته كلّ معاني الحزن والأسى والوجع، وكأنّ أشكال النحيب التي تعرفها البشرية جمعاء قد اختزلت وبثّت فيه، انبثق كما أنّه خُلِقَ خِصيصًا كمرثية للشهداء، كما لو أنّ المآذن يوم خلقها الله وقال لها كوني، ألهمَها طرقَ تعبيرها الخاصة على حزنها عليهم، فأصبحت تُسمعنا انتحابها الخاصّ، ذلك الذي يظلّ يستقرّ فيها أمدًا، ثمّ يخرج يوم يخرج كتعبير عن أقصى مستويات الحزن والتفجّع، ونحنُ الذين نستمعُ لها لا نكفّ عن السؤال: وكيفَ سنوقف حزنَ المآذن حين تُنادي عليه فلا يستجيب؟ 

3

في تاريخ 24 تشرين الأول/ أكتوبر، شهدت نابلس في ساعات الفجر معركة واشتباكًا عنيفًا بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والشباب المطارِدين من مجموعة عرين الأسود في البلدة القديمة، أسفرت هذه المعركة عن استشهاد ستة فلسطينيين من بينهم قائد بارز من أفراد المجموعة هو وديع الحوح، في اللحظات الأولى لإصابة الحوح، وبعد أن تمّ نقله إلى المشفى، لم تُصدّق الناس خبر استشهاده، حاولوا إنعاش قلبه مرات عديدة، وكانوا في مشهد استماتتهم في إنعاش قلبه، يؤكّدون على أنّ  قلوب المقاتلين تمتلك صفة أمومية خاصة، ورغمَ أنّ الحوح عرفَ عنه أنّه نشأ يتيمًا وبلا أم، إلا أنّ قلبه امتلكَ صفته الأمومية الخاصة، وكانت كلّ قطرة دم تصل إليه، وكأنّها تصل إلى قلوب أهالي المدينة جميعًا، فتوزّع عليها وتعطيها إكسير حياتها، كنا نحنُ أهالي المدينة جميعًا حريصين على بقائه ينبض، التففنا حول نبضه في لحظاته الأخيرة، لأنّه جزء لا يتجزأ من نبض كلّ واحد منا، ولأننا نعلمُ بأننا مع كلّ مقاتل نفقده يفقدُ كلّ واحدٍ منا جزءًا من نبضه، وكم نكون صادقين حين نُعبّر عن حزننا على مقاتلينا فنقول: ماتَ اليوم فينا نبض/مقاتل.

4

من ضمن المشاهد التي نُقِلَت حول جنازة الشهداء الستة المهيبة التي حضرها آلاف في نابلس في تاريخ 25 تشرين الأول/أكتوبر؛ أنّ أمهات المطارِدين كنّ يقفنَ على جنبات الطريق، يتقنَ إلى ضمة أو قبلة أو حتى إلى شمة من رائحة أبنائهنّ، وأنّ أحد أولئك الملثمين المطارِدين عندما رأى أمه تقدّم منها وأنزل لثامه وقبّلها وقبّلته ثمّ أعاد لثامه وعاد إلى الجموع.

رغم أن وديع الحوح عُرفَ عنه أنّه نشأ يتيمًا وبلا أم، إلا أنّ قلبه امتلكَ صفته الأمومية الخاصة، وكانت كلّ قطرة دم تصل إليه، وكأنّها تصل إلى قلوب أهالي المدينة جميعًا، فتوزّع عليها وتعطيها إكسير حياتها

وقد ذكّرني مشهد المطارِد وأمّه هذا، بمشهد من مسلسل "الاجتياح"، وهو مشهد طالما نظرتُ إليه على أنّه يُمثّل الأمومة الفلسطينية في أقصى حالاتها ودرجاتها تكثّفًا، يعود بطل المسلسل المطارِد مصطفى في هذا المشهد إلى بيته فجأة ليسلّم على أهله، ويقف أمام أمه، تتقدّم منه أمه مذهولة وكأنّها لا تُصدّق وجوده، ولا تُصدّق أنّه هو من يقفُ أمامها بلحمه وشحمه، تلكمه مرة بيدها وتقول له بصوت مخنوق "يلعن أمك"، تُعيد تكرار العبارة مرة ومرتين وثلاثة وهي وتوجّه له لكمات متتالية، ثمّ تُعانقه وتبكي.

أرى دائمًا بأنّ هذه الـ"يلعن أمك" التي انطلقت من فمّ هذه الأم تُمثّل أعلى درجات الأمومة المكثّفة، فهي كأنّها في هذه اللحظة قد استحضرت تفاصيلها الأولى التي عاشتها مع ولدها، واستذكرت في لحظتها صوت بكاؤه الأول، ولمسته الأولى وشهقته الأولى، ولعَنت نفسها لأنّها تمنّت لو أنّها يوم ولدته قد أعادتها إلى أحشائها مرة أخرى قبل أن تُفجع به عندما يأتيها خبر استشهاده.

أنا أصدّق دائمًا ذلك الثبات في أقوال وأفعال الأمهات الفلسطينيات أمام أبنائهنّ الشهداء والأسرى والمطارِدين، لكنّني أصدّق أكثر ما أراه في كواليس هذا الثبات من حزن وأسى ووجع، فكم من "يلعن أمك" تختبئ في قلوبهنّ الصابرة.