26-يوليو-2016

(Abdullah Coskun/Anadolu Agency/Getty) تظاهرات التصدي للانقلاب

يمكن الادعاء بحقيقة أنّ المجتمع الحديث لم يعد يتطلّب من أجل مضيّه قدمًا وتحقيق الإنجازات وتثبيت أركان السلم والرفاه قياداتٍ ملهِمة كاريزميّة تعتمد على تحريك مشاعر الجماهير والالتزام بمسلّماتهم وتعزيزها حتّى لو كانت تقوّض مسلّمات كونيّة أخرى كاحترام الآخر أو التسامح أو الحريّة أو حقوق المرأة وغير ذلك.

لطالما كنت أشعر دومًا أنّ أخطر ما في الحكومة هو أن ترتدّ على عقبيها لتنال رضا ومباركة الأغلبيّة، مع اطّراح المسؤولية المتوقّعة من السياسيّ والمثقف برفع مستوى الوعيّ لدى الناس بدل الاكتفاء بحالةٍ من الجهل/التجهيل التي تضمن نجاحات مقبلة في الانتخابات بالاستفادة من الوضع الراهن، فتسهّل مهمّة البقاء في الحكم محققة هدفين معًا: ترسيخ قواعد حكمها، ومسايرة الناس في تصوراتهم وأحكامهم وإن كانت خاطئة أو تنطوي على ظلم لأقليّة أو معارضة مع تغذية هذه التصوّرات والأحكام عبر الإعلام الرسميّ والأقلام المقرّبة من السلطة.

لا تسعى الجماهير بالضرورة إلى الحقيقة/الحقّ، وإنما ترضى بمن يساير صورها وأوهامها

غوستاف لوبون تحدّث عن ذلك كثيرًا، ولا تزال بعض عباراته لازمةً تتكرر في ذهني في كلّ مرّة أرى مشهدًا تدوس فيه عنجهيّة الأغلبيّة في بعض الأحيان والظروف على ما أظنّه، شخصيًا على الأقل، حقًا أو قيمة إنسانيّة.

فالجماهير لا تسعى بالضرورة إلى الحقيقة/الحقّ كما يقرر لوبون، وإنما ترضى بمن يساير صورها وأوهامها، وهذه التصوّرات والأوهام قد تتشكّل باسم "الحريّات" وحماية "الديمقراطية" و"الرفاه" أو بدعوى تطبيق "الشريعة" أو إقامة "الخلافة". وليس على القائد مع وسائل إعلامه سوى أن يدغدغ هذه الصور ليضمن في كلّ مرّة تعاطف الجماهير معه وتضحياتهم في سبيله.

ولك أن تقول إنّه كلما ازداد مقدار رسوخ تلك الصور والأحكام في أذهان الناس زادت معها قدرة القائد على استغلالها والمناورة حولها. والحكمة السارية تذكّرنا بأنّ الديمقراطيّة لا تتحقق بمجرّد تبنّيها كنظام إجرائي وحسب، وأنّ الديمقراطيّة تحتاج إلى نخب ديمقراطيّة تعزّز قيم المساواة والحريّة وحكم القانون في المجتمع، وقد يتطلّب ذلك بالإضافة إلى محاسبة السلطة وتقييم أعمالها وتقويمها، قلقلة تصوّرات النّاس إن كانت تتعارض مع القيم الضرورية للحفاظ على الديمقراطيّة في المجتمع وذلك من خلال مناهج التعليم والإعلام الحرّ.

اقرأ/ي أيضًا: التجربة التركية.. الطبقة الوسطى في مواجهة العسكر

بيد أنّ الإشكال يزداد حساسيّة وتعقيدًا حين يقف الناس مع قيمة سامية أو وضع شرعيّ، كأن يقفوا مثلًا في وجه انقلاب كما حدث في تركيا ويفترشوا الشوارع والطرقات للدفاع عن الديمقراطيّة. لا شكّ أنّ من يتابع هذه المشاهد لا يملك سوى أن يمتلئ إعجابًا بها، ولكن لا مهرب في الآن ذاته من أن يتسلل بعض الخوف من المسار الذي تقرر الحكومة/القيادة بعد ذلك أن تسلكه إزاء هذه الشعبية الضخمة والطريقة التي تستثمر فيها هذا الأمر، فلشرعيّة الشارع إغراء مغوٍ وخطير. والحساسيّة تتمثّل في أنّ انتقاد أي سلوكٍ تقوم به الحكومة يتعارض مع قيمة أو حقّ ما يَسهُل أن يدخل في باب خيانة الشعب وقيمه، والجواب الحاضر: الناس يريدون لا الحكومة، الناس قرروا لا القائد.

حضرتني هذه الأفكار وأنا أتحدّث مع بعض الأصدقاء عن بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية مؤخرًا من إغلاق مئات المدارس وفصل آلاف المدرسين من وظائفهم والطلب من كافّة عمداء الكليات تقديم استقالاتهم ومنع كافّة الأكاديميين من السفر خارج البلاد. كان الموقف لدى العديد من الأشخاص "الأكاديميين" الذين تحدثت معهم هو مباركة هذه الخطوات لأنّ القسوة والحيطة أفضل وإن اشتمل ذلك على ظلم لعدد من الناس. واشتدّ النقاش حينًا مع أحدهم حتّى قال بالحرف "وهو أستاذ تفسير القرآن في جامعة تركيّة": "لو كان الأمر لي في زمن الحجّاج لقتلت ابن الزبير، ولكان ذلك عند الله أفضل من تركه واستمرار الفتنة!".

اقرأ/ي أيضًا: الشرعية التركية تعري "العقل الجمعي" العربي

لا شكّ أنّها الفرصة المواتية للقيادة السياسيّة في تركيا أن تعمل على ضبط لجام العسكر تمامًا لوضع حدّ لهوس الانقلابات العسكريّة في البلاد، ولكنّ الفرصة الحقيقيّة كذلك تتمثّل في تأكيد النخب والمثقفين للمواطنين وزيادة وعيهم في خضمّ هذه الأحداث الجسيمة أنّ دولة القانون هي التي تحكم وأنّ مساءلة الحكومة على تصرفاتها وأفعالها، حتّى في هذه الظروف، لا يقلّ أهميّة على المدى البعيد عن الوقوف أمام بطش العسكر ورصاصه.

لقد سقط العسكر في تركيا، ولكن قد سقطت معه أقنعة عديدة على كثيرين يرون في العسكر منقذًا من أردوغان وحكمه

وكشفت الأيام القليلة الماضية عن الفظاعة والوحشيّة التي لا تنفكّ عن تصوّر آلة القتل والبطش الرسميّة، ولو كان لهذا الانقلاب أن ينجح مثلًا، لوجدت كثيرين انبرت أقلامهم لتسويغ حكمه وأفعاله، وسيكون هذا الكاتب متسقًا مع نفسه تمامًا لأنّه يجد دومًا المسوّغ لعنف الأقوى أيّا كان، عسكريًا ببسطار أو سياسيًا ببدلة أنيقة، لأنّه هو نفسه قابع الآن على الأغلب يكتب مسوّغًا ومباركًا كل ما تفعله الحكومة من إجراءات. فالمعيار عند بعض الكتاب والمثقفين انتقادًا ومدحًا هو أين تنتهي السلطة وتستقرّ مقاليد الأمور، فحيثما كانت ولّوا رؤوس أقلامهم نحوها.

ولكن هل سقوط العسكر ومخططهم الانقلابيّ يعني بالضرورة أن يسقط كل حديث عن نقد الحكومة والرئاسة التي كان عنوان الحكم فيها في الآونة الأخيرة هو التخبّط والتناقض، من تقييد للحريّات وعقد صفقات مشينة مع أوروبا بشأن اللاجئين وتطبيع العلاقات تمامًا مع العدوّ الصهيونيّ والإمعان في المعالجة العسكريّة للوضع الكردي شرق البلاد وتراجع للاقتصاد وعائدات السياحة وضعف الوضع الأمنيّ العامّ في البلاد، بل وخصوصًا في إسطنبول، أشدّ حواضر تركيا أهميّة، خاصة بعد التفجيرات الأخيرة في مطار أتاتورك.

يذكر الأستاذ سعيد الحاج، وهو أحد أهمّ المتخصصين في الشأن السياسي التركيّ، أنّ كثيرًا من نقاشاتنا حول تركيا تفقد قيمتها حين نعتقد أنّ رأينا فيها قادرٌ على تغيير مجرى الأمور في ذلك البلد، ودائمًا ما يذكّر قرّاءه ومجالسيه بأنّ الأجدر هو أن نجد نحن العرب ما يمكن أن نفيده من هذه التجربة القريبة منّا على جميع الأصعدة، جغرافيًا وتاريخيًا واجتماعيًا ودينيًا بشكل أو بآخر. وعليه فإنّ العجب بأكاديميّ تركيّ مثلًا يسوّغ أيّ فعل تقوم به الحكومة من تقييد للحريات أو حالات فصل عشوائية على الشبهة أو سوى ذلك يهون أمام أكاديميّ أو مثقف عربيّ يجد في كلّ ما يفعله أردوغان مثالَ حكمة وحنكة ودهاء. ولا ريب أنّ هذا التوجّه الذي عمّ وطمّ بين كثير من متابعي الشأن التركي من العرب، خاصّة من الإسلاميين الذين راحوا يعقدون مقارنات مهينة بين الحالة التركيّة والمصريّة مثلًا، لن يفيد كثيرًا في إنضاج نقاشاتنا السياسيّة العربيّة ولا في زيادة الوعي بشأن الحريّات والدفاع عن الديمقراطيّة ومناهضة الاستبداد.

اقرأ/ي أيضًا:
أردوغان وما بعد الانقلاب
في أعقاب الانقلاب.. شرخ كبير بين تركيا وأمريكا