01-فبراير-2016

زيجمونت بومان

هذه المقابلة والتقديم لها هي ترجمة للنص الأصلي المنشور في النسخة الإنجليزية من صحيفة Elpais الإسبانية المنشورة في 25 كانون الثاني/يناير 2016.

____________

احتفل زيجمونت بومان للتو بعيد ميلاده التسعين واستقل طائرتين من محل إقامته بمدينة ليدز في شمال بريطانيا ليحضر حدثًا في مدينة بورجوس شمالي إسبانيا. هو يعترف بكونه متعبًا حين شرعنا بهذه المقابلة، لكنه ينجح في التعبير عن أفكاره بهدوء ووضوح رغم ذلك، آخذًا وقته في كل إجابة لأنه يكره إعطاء إجابات بسيطة لأسئلة معقدة. منذ طرحه لنظرية الحداثة السائلة في أواخر التسعينيات -والتي تصف عصرنا بكونه عصر "كل الاتفاقيات فيه مؤقتة وعابرة وصالحة فقط حتى إشعار آخر"- أصبح بومان أحد رموز علم الاجتماع. التقطت ما تدعى بحركة 15 مايو الساخطة عمله على عدم المساواة وانتقاده لما يرى أنه فشل السياسة في تلبية توقعات الشعوب، بجانب نظرة شديدة التشاؤم إلى مستقبل المجتمع – رغم أنه ألقى الضوء مرارًا على نقاط ضعفها.

زيجمونت بومان: نحن نعيش في فترة انتقالية، بين وقتٍ كان لدينا فيه يقينيات وآخر حيث لم تعد الطرق القديمة لفعل الأشياء تعمل.

بومان الذي وُلد في بولندا عام 1925 هاجر والداه إلى الاتحاد السوفيتي عقب الاجتياح الألماني عام 1939. في عام 1968، وبعد تجريده من منصبه كمعلم وفصله من الحزب الشيوعي مع الآلاف من اليهود الآخرين في أعقاب حرب الأيام الستة، غادر بومان بولندا متجهًا إلى المملكة المتحدة، شاغلًا منصبًا بجامعة ليدز حيث يعمل الآن كأستاذ متقاعد في علم الاجتماع. حصل عمله على العديد من الجوائز الدولية، من بينها جائزة أمير أستورياس الإسبانية عام 2010.

شرح بومان نظرته المتشائمة للعالم في كتبٍ مثل "هل ثراء القلة يفيدنا جميعًا؟" الصادر في 2014، والذي يجادل بأن العالم يدفع ثمنا باهظًا للثورة النيوليبرالية التي بدأت في الثمانينيات وأن الثروة لم تتساقط إلى باقي المجتمع. في كتاب العمى الأخلاقي، المنشور العام الماضي، يحذر هو والمؤلف الآخر ليونيداس دونسكيس من خسارة المجتمع في عالمنا الذي يزداد فردانية.

  • لقد وصفت عدم المساواة بالسرطان. هل الديمقراطية في خطر؟

يمكننا أن نصف ما يحدث في الوقت الحالي بأنه أزمة للديمقراطية، انهيار الثقة: الاعتقاد بأن قادتنا ليسوا فقط فاسدين أو أغبياء، وإنما عاجزون. الفعل يحتاج سلطة، كي تكون قادرًا على فعل أشياء، ونحن نحتاج السياسة، وهي القدرة على تقرير ما الذي يجب فعله. لكن ذلك التزاوج بين السلطة والسياسة على أيدي الدول القومية قد انتهى. لقد تم عولمة السلطة، لكن السياسة مازالت محلية كما كانت من قبل. لقد تم قطع أيدي السياسة. لم يعد الناس يؤمنون بالنظام الديمقراطي لأنه لا يحافظ على وعوده. نحن نرى ذلك، على سبيل المثال، مع أزمة الهجرة: إنها ظاهرة عالمية، لكننا مازلنا نتصرف على نحوٍ محلي. مؤسساتنا الديمقراطية لم تُصمم للتعامل مع مواقف ذات اعتماد متبادل. أزمة الديمقراطية الحالية هي أزمة للمؤسسات الديمقراطية.

  • في أي اتجاه يتأرجح البندول الذي تصفه بين الحرية والأمن في الوقت الحالي؟

هاتان قمتان توجد صعوبة هائلة في التوفيق بينهما. إذا أردت المزيد من الأمن، فإنك سوف تتخلى عن قدرٍ معين من الحرية؛ إذا أردت المزيد من الحرية، فسوف يكون عليك أن تتخلى عن الأمن. سوف تستمر تلك المعضلة إلى الأبد. منذ أربعين سنة اعتقدنا أن الحرية قد انتصرت وبدأنا الانغماس في الاستهلاكية. بدا كل شيء ممكنًا عبر استدانة الأموال: سيارات، منازل... كل ما عليك هو أن تدفع لاحقًا. كانت الصحوة في 2008 مريرة، عندما جفت القروض. ضربت الكارثة، الانهيار الاجتماعي الذي أعقب ذلك، الطبقات الوسطى تحديدًا بشدة، ساحبًة إياها إلى وضعٍ غير مستقر مازالت فيه: هم لا يعرفون ما إذا كانت شركتهم سوف تندمج مع أخرى وسوف يتم تسريحهم، هم لا يعرفون ما إذا كان ما اشتروه هو ملكهم حقًا... الصراع لم يعد بين الطبقات، وإنما بين كل شخص والمجتمع. ذلك ليس مجرد افتقادًا للأمان، وإنما افتقادٌ للحرية.

  • أنت تقول بأن التقدم هو خرافة، لأن الناس لم يعودوا يؤمنون بأن المستقبل أفضل من الماضي

 نحن نعيش في فترة انتقالية، بين وقتٍ كان لدينا فيه يقينيات وآخر حيث لم تعد الطرق القديمة لفعل الأشياء تعمل. نحن لا نعلم ما الذي سوف يحل محل ذلك. نحن نجرب طرقًا جديدة لفعل الأشياء. حاولت إسبانيا استجواب الأشياء من خلال حركة 15 مايو، حيث استولى الناس على المساحات العامة، يتناقشون، محاولين استبدال الإجراءات البرلمانية بنوعٍ من الديمقراطية المباشرة. لم يستمر ذلك طويلًا. سوف تستمر سياسات التقشف، لا أحد يستطيع إيقافها، لكنهم مازال باستطاعتهم أن يكونوا فعالين نسبيًا في العثور على طرقٍ جديدة لفعل الأشياء.

  • لقد جادلت بأن أمثال حركة 15 مايو وحركة احتلال العالمية تعرف "كيف تشق الطريق، لكن ليس كيف تخلق شيئًا صلبًا"

يتجاوز الناس اختلافاتهم لفترة في الميادين العامة من أجل هدفٍ مشترك. إذا كان ذلك الهدف سلبيًا، يتعلق بالغضب الموجه ضد شخصٍ ما، فإن هناك فرصة أكبر للنجاح. بطريقةٍ ما كان من الممكن أن تكون انفجارًا للتضامن، لكن الانفجارات قوية جدًا وقصيرة العمر.

  • أنت تعتقد أيضًا أن تحالفات قوس قزح بطبيعتها لا يوجد بها مكان للقيادة

ذلك تحديدًا لأن مثل تلك الحركات تفتقد القادة حتى يمكنها البقاء، لكن أيضًا لأنها تفتقد القادة تحديدًا لا يمكنها تحويل إدراكها للهدف إلى فعل.

  • في إسبانيا، ساعدت حركة 15 مايو في خلق قوى سياسية جديدة

تبديل حزب بآخر لن يحل المشكلة. المشكلة ليست أن الأحزاب مخطئة، ولكن أنها لا تسيطر على الأشياء. مشكلة إسبانيا هي جزء من مشكلة عالمية. من الخطأ الاعتقاد بأنه يمكنك حل الأشياء محليًا.

زيجمونت بومان: الفرق بين مجتمع وشبكة هو أنك تنتمي إلى مجتمع، بينما تنتمي الشبكة إليك.

  • ماذا تعتقد بشأن مشروع الاستقلال الكتلاني؟

أعتقد أننا مازلنا نتبع مبادئ فرساي، عندما تم تأسيس فكرة حق كل أمة في الحكم الذاتي. لكن هذا خيال في عالم اليوم، حيث لم يعد هناك مناطق متجانسة. اليوم كل مجتمع هو مجرد مجموعات من المهاجرين. ينضم الناس إلى المجتمعات التي يوالون إياها ويدفعون ضرائبها، لكن في نفس الوقت، هم لا يرغبون في التخلي عن هوياتهم. لقد انقطعت الصلة بين المكان الذي تعيش فيه والهوية. الوضع في كتالونيا، كما في اسكتلندا أو لومبارديا، هو تعارض بين الهوية القبلية والجنسية. هم أوروبيون، لكنهم لا يرغبون في الحديث مع بروكسل عبر مدريد، وإنما عبر برشلونة. يظهر نفس المنطق في كل دولة تقريبا. نحن مازلنا نتبع نفس المبادئ التي تأسست في نهاية الحرب العالمية الأولى، لكن حدثت الكثير من التغيرات في العالم.

  • أنت متشكك في الطريقة التي يحتج بها الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يدعى بـ"النشاط السياسي من فوق كرسيٍ متحرك"، وتقول بأن الإنترنت يضعف ذكاءنا بالتسلية الرخيصة. لذا فما الذي تود قوله بعد أن أصبحت الشبكات الاجتماعية أفيون الشعوب الجديد؟

لقد تغير سؤال الهوية من شيء تولد به إلى مهمة: عليك أن تخلق مجتمعك الخاص. لكن المجتمعات لا تُخلق، وأنت إما أن يكون لديك مجتمع أو لا يكون. الذي تستطيع الشبكات الاجتماعية خلقه هو بديل. الفرق بين مجتمع وشبكة هو أنك تنتمي إلى مجتمع، بينما تنتمي الشبكة إليك. أنت تشعر بأنك مسيطر، تستطيع إضافة الأصدقاء الذين ترغب بهم، تستطيع حذفهم إذا أردت. أنت تسيطر على الأشخاص المهمين الذين ترتبط بهم. يشعر الناس بشعورٍ أفضل قليلًا كنتيجةٍ لذلك، لأن الوحدة، الهجر، هي أعظم مخاوف عصرنا الفرداني. لكن من السهل إضافة أو حذف أصدقاء على الإنترنت بحيث يفشل الناس في تعلم المهارات الاجتماعية الحقيقية، والتي تحتاجها عندما تخرج إلى الشارع، أو تذهب إلى مكان العمل، حيث تجد الكثير من الناس تحتاج إلى التفاعل معهم. أعطى البابا فرانسيس، وهو رجلٌ عظيم، أول مقابلة له بعد انتخابه لأوجينيو سكالفاري، وهو صحفي إيطالي ملحد. لقد كانت علامة: الحوار الحقيقي لا يتعلق بالحديث إلى أشخاص يؤمنون بنفس الأشياء التي تؤمن بها. وسائل التواصل الاجتماعي لا تعلمنا أن نتحاور لأنه من السهل أن نتجنب الجدل... لكن معظم الأشخاص يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي ليس للاتحاد، ليس لتوسيع آفاقهم، ولكن على العكس، ليخلقوا لأنفسهم منطقة راحة حيث الأصوات الوحيدة التي تصل إليهم هي صدى صوتهم، حيث الأشياء الوحيدة التي يرونها هي انعكاسات وجههم. وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة للغاية، إنها توفر المتعة، لكنها فخ.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الفيل الأسود..أوان الحنين للسينما السودانية

تشيخوف..تداعيات شخصية