27-أغسطس-2015

كثير من السوداوية وقليل من الأمل

فايزة غين كاتبة فرنسية تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، ولدت وعاشت في سجون الضواحي الفرنسية، لتكتب عنها ومنها قصصًا مختارة تفجر بها غضبها الساخر من مجتمع يرفض وجودها. 
تكتب فايزة بلغة سلسة، سهلة، وساخرة لتؤسس ورغم صغر سنها اسمًا لها في حقل الرواية الفرنسية الحديثة.

روايات فايزة غين فتح لحقل يمكن تسميته بـ"أدب الضواحي"

حقّقت رواية فايزة غين الأولى "كيف كيف غدًا" 2004 نجاحًا وجدلًا باهرًا في فرنسا بفتحها حقلًا روائيًا لما يمكن تسميته بـ"أدب الضواحي"، وهو نوع جديد تسخر من خلاله الكاتبة فايزة غين من "نصيبها" في أن تكون فتاة من الضواحي.

كتبت "كيف كيف دومان" أو "غدًا الشيء نفسه"، مستخدمة اللغة الخاصة بأهل الضواحي وهي لغة "الفيرلان" أو "الكلمات المقلوبة" كـ"مف" المقلوبة من كلمة "فام" التي تعني امرأة في اللغة الفرنسية، وكلمة "أووف" مقلوبةً من كلمة "فو" أي مجنون، ليكون عنوانًا لرواية لاحقة "أضغاث أحلام للمجانين". 

فايزة غين الكاتبة الفرنسية من أصل جزائري، أصبحت من خلال روايتها المتلاحقة، ملكة الشاشات والمحطات الفرنسية التي تتسارع لاستضافتها. تروي في "غدًا الشيء نفسه" حكاية درية، أو دوريا، كما يسميها الفرنسيون، تلك الفتاة الشابة التي تقطن في الضواحي، والتي هرب أبوها إلى بلده في شمال أفريقيا ليبحث عن زوجة تصغره وتعطيه ابنًا، تاركًا ابنته دوريا وزوجته وحيدتين تصارعان قسوة الحياة والأيام.

تؤكد الكاتبة، التي تقترب جدًا من شخصية بطلتها حتى نكاد لا نرى فروقًا بينهما، على أن الفقر لا يقاس بين دول فقيرة في أفريقيا وأخرى غنية في أوروبا، بل بين طفل وآخر في نفس البلد الأوروبي وفي بلدها فرنسا. فبلد دوريا لا يعاملها بمثل ما يعامل أطفاله الآخرين ومراهقيه، فهي فرنسية من أصل عربي مهاجر، تعامل بطريقة مختلفة تمامًا كتلك التي تعامل فيها فتاة فرنسية في سنها لا تقطن في الضواحي.

تعمل أم دوريا كمنظفة في أوتيل "فورمل أن" رخيص مقابل ثمن زهيد لا يكفي لشراء ملابس جديدة لها أو لابنتها. تسخر الفتيات الأخريات من دوريا ومن ملابسها المستخدمة. وتسخر دوريا من فقرها ومن كل من يحيطها. تنتقد دوريا الكم الهائل من الأخصائيات الاجتماعيات اللاتي يتوالين على منزل والدتها ليشعرنها بالفرق الواضح بينهن وبينها هي وأمها، اجتماعيًا واقتصاديًا، ومن ثم يعدن إلى حياتهن الطبيعية بعيدًا عن جدران الضواحي.

تتحدث دوريا عن الأخصائية ذات الأظافر المصبوغة بعناية، التي تتحدث إلى والدتها بفرنسية مبسطة، وكأنها تتحدث إلى امرأة لن تفهمها إن تحدثت إليها بتلقائية، وتخبر دوريا بأنها سعيدة لأنها ستقوم بتسجيلها في دروس تصفيف الشعر النسائية. ترفض دوريا المراهقة، قوية الشخصية، بأن يكون مصيرها كمصير كثيرات من فتيات الضواحي "كوافيرة" تصفف شعر المسنين والأغنياء من الفرنسيين، وترفض أن تملي عليها الأخصائية أو الطبيبة النفسية بما يجب أن تكونه وتفعله، وبأن تتوقف عن نسج أحلامها فقط لأنها من الضواحي.

تكره دوريا أيامها وتشعرنا من خلال شخصيات الرواية بجو من الاختناق، لنفتح لاحقًا نافذة صغيرة على قلبها الساذج يدق دقات غريبة حين يقبّلها نبيل من دون إذنها، فيتركها ومشاعرها في تخبط. نفتح نافذة أخرى على مراد صديق دوريا المقرب والذي يكبرها سنًا، وتخبرنا بأنه طرد من عمله كحارس مبنى كونه مشتبهًا به في قضية سرقة في المحل. يعود مراد الذي يعشق شعر رامبو إلى الضاحية محاولًا التغلب على مصيره المحتوم، يقع في الحب مع فرنسيات شقراوات. تسخر دوريا من مظهرهن وتتمنى لو يختفين يومًا من حياتها وحياة مراد.

نص فايزة غين هامشي يسخر فيه الهامشيون من المجتمع الفرنسي الذي يرفض اندماجهم

لا يجد مراد في الضواحي مستقبلًا له غير التجارة بالحشيش وتدخينه طوال الوقت، ولكن وكما تقول دوريا "أموال الحشيش لن تعود عليه بأموال التقاعد المريحة حين يصير مسنً". الحياة في عيون المراهقة الصغيرة سوداوية وخانقة بين جدران المباني المرتفعة والبشعة. تبوح لنا الكاتبة بمعاناة تختزل في الضواحي حيث يزج بالفقراء في أقفاص مغلقة، تزورهم المؤسسات الاجتماعية من وقت لآخر لمعرفة احتياجاتهم ومطالبهم. 

في كتابة فايزة كثير من السوداوية وقليل من الأمل الذي يختفي خلف طريقة ساخرة في الكتابة، كالسخرية من القدر، أو "المكتوب" كما تردد البطلة في الرواية. تنتقل بنا الكاتبة من قصة إلى أخرى لتنتقد كل من حولها، سواء كان صاحب الدكان البخيل، الذي تسامحه كونه يصبر على سداد ديون أمها، وتسخر من عجوز في الضاحية، تذكر دوريا وأمها بأن ما يرتدينه من ملابس مستخدمة هي في الأصل ملابسها التي كانتت ترتديها سابقًا قبل بيعها. 
 
الأبطال الثانويون مهمون نظرًا لتشكيل كل منهم لصورة عن حياتهم القاسية والبائسة في الضواحي. لصديقة أمها "طانط زهرة" قصة مؤلمة حيث زج بولديها في السجن من دون سبب سوى كونهما مراهقين لم يجدا حنان الأب ولا إرشاداته في اتباع السلوك الصحيح كنمط لحياتهما. الأب هرب أيضًا من مسؤولياته تاركًا زوجته وولديها وحيدين في الألم والبؤس والفقر المحيط بهم في أي مكان يذهبون إليه في هذه الضواحي المغلقة على أصحابها. 

الأب زوج طانط زهرة، وكوالد دوريا عاد إلى البلاد ليبحث عن زوجة تصغره سنًا. دوريا تسخر من طبيبتها النفسية التي ترتدي "بورت جارتيل" وتنبع من فمها رائحة قوية للكحول، تخبرها بأن نبيل ربما يكون "مثليّ"، لتنهار أحلامها في الحب، ولكن سرعان ما تتغير في نهاية الرواية.
 
دوريا لها قدرة كبيرة في ابتلاع كل ما يلقي به التلفاز إليها: إعلانات، برامج ساذجة كستار أكاديمي، وبرامج تلفزة الواقع. التلفاز وحده صديق الفقراء في الضواحي، وهو من يلهيهم عن الملل الذي يشعرون به ويصنع لهم أحلامًا تقربهم من المجتمع الذي يعيشون به. توضح دوريا بأنها على دراية بكل شخصيات التلفاز الفرنسي المحلية وبأنها سعيدة لأنها ستشارك بالانتخابات لتدلي بصوتها وبصوت أمها المغرمة ببيرتراند ديلانوي. تتحدث دوريا عن محطات التلفاز والصحافيين والسياسيين الذين لا يزورنهم أبدًا، ولا يأبهون بهم أو بوضعهم المزري إلا لتغطية أخبار العنف والمخدرات والقتل. 

تتتحدث فايزة غين الكاتبة بلغة مراهقات الضواحي التي اختلقنها، لكي يصبح لديهن لغة مختلفة عن لغة فولتير وموليير، تقترب أكثر من صراع الطبقات الاجتماعية وتتحدث بلغتهم وعن همومهم. فايزة هي دوريا ودوريا هي فايزة، والاثنتان قدمتا صورة بعيدةعن صورة الضحية، وتعاملتا مع المجتمع الفرنسي المحيط بندية.
 
استطاعت فايزة غين، رغم صغر سنها وخبرتها الأدبية، اجتراح لغة سهلة خاصة بالضواحي، ليجد أبناؤها ذواتهم فيها عند قراءة رواياتها. كما استطاعت في رواياتها السابقة "أضغاث أحلام للمجانين"، و"رواد بالتو"، و"الرجل لا يبكي" أن تدرج أبناء الضواحي في صميم الرواية الفرنسية، عبر السخرية اللاذعة من المجتمع الفرنسي الذي يرفض اندماجهم، ومن خلال انتقادها للسلوكيات التي تتضارب مع حريتها الشخصية كامرأة ساهمت في تركيبعا ثقافات متعددة.