18-أغسطس-2015

معتز الإمام/ السودان

ندبةٌ بنيةٌ على الخد الأيسر، خطانِ أسودانِ أسفلَ العينين، جرحٌ قديمٌ في القلب، يلتئمُ وتفززهُ الكلمات، انحناءةٌ بسيطةٌ، رجفةٌ في اليدين، وتلعثمٌ واضحٌ في نطقِ: أحبُّ. ثمةَ رجلٌ يتفلّتُ من إسار الوجعِ الجديد، ليكونَ الرجلَ الذي كان بأوجاعهِ التي كانت، المقدور عليها، وغير المشغولةِ بقضايا كبرى كقضية الشعر والأنثى، وأخيرًا البلدان ونيرانها.

إذا انكسرت، عشت مكسورًا، وإن نزلتَ أسفلَ الهضبةِ وسلمتَ، ستسلمُ بقية الحياة

أمسكَ أبي بيدي، كانت صغيرة على يده، وأمسكَ باليدِ الأخرى دراجتي الهوائية الجديدة كأنها طفل آخرَ، وأخذنا إلى الهضبة القريبة، لم تكن عالية كثيرًا، تنحدر بقوة جهة الشمال، وتنساب بسلاسة نحو الجنوب، قالَ "هي ذي جهة الجنوب يا ولدي، وخلفك الشمال، وهذي دراجتك فرسك، وأنتَ فارس الريح الآن، فاحسم أمركَ اليومَ وليس غدًا، إذا انكسرت، عشت مكسورًا، وإن نزلتَ أسفلَ الهضبةِ وسلمتَ، ستسلمُ بقية الحياة، لكن ليس طويلًا، لم يكتب لأحدٍ أن صار والسرمد توأمين، فلا تتأمل في الكلام، وانظر في فعلِ عيني، ها أنا أحدّق في الأفق الذي لم أصلهُ، غير أني حاولتُ وفشلتُ، وحاولتُ وسقطتُ عن فرسي، فلا تسقط يا بني". قالَ أبي وقد مسح دمعة عن عينه اليسرى، دمعة مرتخيةٌ مثل عينه بما تركت عليها أثرًا ركلةُ السجّانِ العراقي، وهو يودّعُ "قصرَ النهاية" نحوَ سجن كبير في بلدهِ بعدَ الحدود، الطريق أمامك، تشبّه بالذئب، فلا تلتفت للخلف، الرصاصة ستطولك لو تبعتك، الأفعى ستلدغك، الطوفان سيغمرك، الآنثى ستغدر بك، والطواغيت سيعلمون على جسدك بوشومهم، فلا طائل من التفاتة، والمنجاةُ في العَدو إلىَ الأمام، فاعْدُ.. أعْدُ من ضفةِ الزوال إلى ضفة الملك وريحك فرسك، إن ضاقت عليك، أطبقَت لك الضفتين على بعضهما، لتكونَ المسافة صفرًا.

راح أبي كطفل يقلّد حركات صقر في السماء، يفردُ ذراعيه للهواء ويحركهما، لوهلة خلتهما جناحين كبيرين، ربما لم تكونا كذلك، لكن عين الصغير آنذاك، كانت تمنحُ الأشكال حجما غير حجمها، وكانَ واضحًا أن هذا الرجل الذي خبرَ الكثير، وعاينَ النعيم والشقاء والوحشة، يعرفُ كيفَ يجرُّ طفله إلى وهمه، بل حقيقته التي لم تتحقق، سيغري الصغير بحركة الصقر، ليكونا معًا، ذاك يتمّلكُ السماء، وذا يتوهمُ أنّه ملكُ الأرض، وماهي الأرض التي يريدها أبٌ سجنتهُ الصدفة وأخرجته الصدفة أيضاً لولدٍ، يخطُّ رسومَ سنواته الأولىَ على الريح، ويمسحها كلما زعلَ من أحد أو منعت عنه دراجتهُ. تتقوّض الجغرافيا لصالحِ الأوهام أكثر، وتصبحُ أصغر من إقطاعية، تحددها مطامع الرجل في مساحة أكبر تتسعُ لحقل القمح وتكونُ فلاة ساحرة للفرس، تخبُّ حاملة فارسها من أولها إلى نهاياتها.

الأرضُ التي بين نهرين، أرض بين نيرانٍ كثيرة، هذا ما سيأتي إليهِ مؤرخُ الفواجع وساردها، سيمرُّ بها مرورَ الوجل الخائف، لأن أعطتهُ الأرض نفسها نفَسَها، فعشقها من جملة ما عشقَ، وصار يفكرُ بقلبهِ لا بعقلهِ، ظنًا أنَّ ساكني الجنوب والمحيطين به، لهم الطباع ذاتها، والحبُّ ذاته، حيثُ يفكرُ الرجل من بوابةِ امرأة عبطةٍ، ولها شعر طويلٌ كذيل فرس، ترسمُ على الماء الذي تتجاوزه خطاً يفوق خطَّ الأفق، والخطوطُ التي تركتها المحاريث والفؤوس. 

أرخىَ أبي بيدي مقودَ "رسنَ" دراجتي، ورأيت بأم عيني كيف أن الريح نظرت في وجهي وتفرستني طويلا، قبلَ أن أتخذ الأمر الذي لم أتخذه لوحدي، فالأسفل عميق كما يبدو لطفل لا يخبر فرسَه ولا الريح التي سيمسح الظلال عن وجهها، ليراها أفضل، فيحبها وتحبهُ، لم أدخل هذا الغزلَ الذي صار فيما بعد جزءا من حياتي إلاَّ بعدَ أن دفعني أبي باتجاهِ أسفل الهضبة صاحبة الشأن في جعلي شبيها بالصقور التي ترتاد الأماكن العالية، الذي حدثَ أني أنطلقتُ بسرعةٍ، صرت فيها أسمع الريح وتحولت وشوشتها لي إلا مايشبه الصراخ، لأتحولَ بلحظات أنا وعجلات دراجتي/ فرسي والريح التي رافقتني إلى مجدي المفترَض عجلة واحدة، تخبُّ بسيرها إلى الأسفل بثقة تامة بالوصول.

لم يضحك أبي في الأعلى، ورأيته ثانية، وأنا أتعثر بدمي وجروحي، يمسحُ دمعة مرتخية عن عينه اليسرىَ، وصفق لي من هناك، في حين أمطرتهُ بوابل من الشتائم، كان يدرك هذه البدوي الذي تعلّم الحياة على حساب روحه أن أي سفر إلى المجهول، يحتاجُ تلكَ الدفعة المفاجئة لمؤخرة دراجتي، فنكون أنا وهي والريح التي دفعتنا قطعة واحدة تستقر في الأعماق.

سيتعلّم الطفل، وسيأتي يومياً إلى الهضبة لا لينزل منها وإنما ليتسلقها، هكذا تعود بفضل فرسه الحديدية أن يصعدَ فوق.. فوق.

* مقطع من عمل (ميتا) روائي بعنوان: شمال الشرق/ ظلال سيرة الجنوب.