21-سبتمبر-2016

غينسبيرغ وفيرلنغتي

كثيرةٌ هي المعاني التي حملتها لفظة "beat" في تقديم جيل كُتّاب أمريكا مطلع الخمسينيات، ولربما يكون "المتعاطف" المعنى الأكثر صوابًا، وهو ما قاله عميد هذا الجيل الروائي "جاك كيراواك" في مقابلة مع ستيف ألن في 1959.

كانت الأرواح الشغوفة سمة مختبئة وراء بصمات جيل البيت الخالدة

بالرغم من انتشار مفهوم آخر لهذا الجيل ألا وهو جيل الرفض، إلا أن الملحوظ في أعمالهم الشعرية والروائية، وإن بدت رافضة لكثير من ملامح المجتمع الذي عاشوا فيه بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن التعاطف مع بعضهم البعض ومع أنفسهم، وأرواحهم الشغوفة بالمقام الثاني يعتبر السمة المختبئة وراء بصماتهم الخالدة حتى بعد وفاة غالبية ركائز هذا الجيل.

لورنس فيرلنغتي 

يعد الشاعر لورانس فيرلنغتي، مواليد عام 1919، من المدافعين عن هذه الحركة والمؤثرين فيها، فبالإضافة إلى كونه أحد شعراء هذا الجيل المميزين فهو صاحب دار النشر "سيتي لايتس" في مدينة سان فرانسيسكو، الدار التي كانت نقطة تجمّع لأصحاب هذا الفكر المشتعل ونقطة انطلاق أهم شعرائه وانتشار قصائدهم في الشارع الأمريكي.

اقرأ/ي أيضًا: إدواردو غاليانو.. شهرزاد الجنوب

"على الشباب أن يكونوا مكتشفين، البيت هو نقطة البداية"، يترك فيرلنغتي هذه الوصية في معترض قصيدته الطويلة "سيرة ذاتية" التي يصف فيها العالم الذي عرفه وتجول في أرجائه محاربًا متعاطفًا وشاعرًا حالمًا، باحثًا عن القائد الذي طار معه مرة فيما مضى، عن الأب الذي لم يعرفه ولم يجده أبدًا. 

واللوحة التي علقها على واجهة دار النشر لترويجه للكتب الممنوعة من النشر ليست إلا مانيفيستو قصيرًا، عن روحه الباحثة عن الأدب الجديد الذي يحتاجه الجيل الذي أضاع هويته بعد الحرب، ودأب يبحث عنها غارقًا في محاولاته في بحر المخدرات والجنس والترحال الطويل.

ألن غينسبيرغ

إذا كان جاك كيراواك عميد هذا الجيل المتعاطف الرافض فإن ألن غينسبيرغ هو شاعر هذا الجيل ومؤرخ تجاربهم الحياتية واللحظية الدقيقة، حيث تعتبر قصيدة "عواء" التي نشرتها دار سيتي لايتس عام 1955 مانيفيستو تلك المرحلة بشخصياتها المتميزة والمتمايزة والتي ترافقت فترة طويلة وتشاركت النقاشات ومحاولات التجديد والتعبير الحر.

بداية المسيرة الأدبية العظيمة

في غاليري سيكس، عام 1955، يُلقي غينسبيرغ مقاطع من قصيدته المشهورة "عواء" بحضور من فيرلنغتي الذي ينتهز الفرصة بمراسلة صاحب القصيدة على الفور برسالة يبدأها مقتبسًا تحية رالف إيميرسون للشاعر والت ويتمان: "أحييك في بداية مسيرة أدبية عظيمة"، وبهذه التحية المستبصرة يسأل الناشر المتعطش لما سمعه في القصيدة الجديدة: "متى ترسل لي مخطوط قصيدة عواء لأنشره؟".

لم يكن ألن غينسبيرغ شاعر جيل "البيت" الأمريكي وحسب، بل مؤرخ تجاربهم الحياتية واللحظية الدقيقة

لا تتوقف الرسائل بين الشاعرين، بحكم سفر كل منهما المتكرر، ليناقشوا فيها الشعر والأصدقاء أو حتى الأحداث اليومية، بالإضافة إلى المشاكل التي كانوا موشكين على دخولها بسبب نشر كتاب "عواء وقصائد أخرى" لغينسبيرغ، حيث قامت المحكمة بتوجيه تهمة نشر ما هو فاحش ومسيء للذوق العام بحق الناشر فيرلنغتي والشاعر غينسبيرغ، تم بالفعل سجن فيرلنغتي وصديقهم شيغ مويرا الذي كان يوزع المراجعات النقدية حول الكتاب الجديد في الشوارع.

اقرأ/ي أيضًا: هل استطاع مارتن لوثر كينج تحقيق حلم حياته؟

يرسل غينسبيرغ من المغرب رسالة إلى صديقه بعد أن علم بالتطورات القضائية حول الكتاب وخروجه بكفالة من السجن: "هل يمكن أن تنفرد الشرطة بتقرير ما هو شائن وما هو جيد، أتذكر بأنك حظيت بنفس المشاكل عند نشر كتاب "هنري ميلر" هل يمكن أن نلقى نفس المتاعب التي لقيتها آنذاك، أنا أحاول جمع المال للتكفل بالغرامات المتوقعة، أتمنى لو أنني معك في هذه المحنة، إذا حدث وأرسلوك إلى السجن مرة أخرى سأبدأ حربًا لأجلك وسأكون في الزنزانة المجاورة بلا شك، اعتذر بالنيابة عني لـ"شيغ مويرا" وأبلغه شكري، لقد كتبت مخطوطًا جديدًا سوف أرسله لك لتراه وتنشره. لن أبيع نفسي إلى ناشر آخر أعدك بذلك. على العهد دائمًا، ألن".

كان فيرلنغتي يرسل إلى صديقه الأنباء بخصوص القاضي والجلسات الاستماعية المتعلقة بالكتاب، ولم يغفل أن يرفق المراجعات النقدية التي تداولتها المجلات المهمة آنذاك بخصوص الكتاب الذي كان يقفز من نجاح إلى آخر. 
كما ورد في إحدى رسائل فيرلنغتي إلى غينسبيرغ الذي كان في باريس حينها: "عزيزي ألن، سأرسل لك مقتطفات من المحاكمة المتعلقة بكتاب عواء، وأنا أكتب مقالًا لمجلة "إيفر جرين" بهذا الخصوص بناء على طلب "دون ألن"، بالمناسبة صورة جميلك لك في مجلة "لايف" أين أُخِذت هذه الصورة. في مهرجان الفن هنا هذا الأسبوع كان هناك عرض كبير للدمى، وكان لك دمية تمثلك ولصديقنا جاك كيراواك ولورانس أيضًا، كما أن مفتش الشرطة كان له دمية تمثله، يمكنك تخيل المشهد. المخلص دائمًا، لورانس".

تبادل الشاعران الكثير من الرسائل حتى خرجا بحلول عام 1957 منتصرين على هذه التهمة بقرار قاضي المحكمة العليا في كاليفورنيا، الذي أقر بأن "الكتاب ينطوي على أهمية اجتماعية تغفر له، وبأنه ليس فاحشًا".

اقرأ/ي أيضًا: ماذا لو لم يكن ثمة عاهرات؟!

مجموع الرسائل التي دارت بين الشاعرين والتي نشرتها دار "سيتي لايتس" مؤخرًا تتناول جانبًا آخر، غير تفاصيل المحاكمة التي مر بها كتاب عواء، فهناك رسائل تصف الأحوال التي مر فيها غينسبيرغ من إفلاس فكري إلى إفلاس مادي، بالإضافة إلى النقد الذاتي الذي عصف به وأخذ يؤثر على مجمل أعماله التي كتبها لاحقًا، في إحدى الرسائل يذكر غينسبيرغ "كل ما كتبته هو كومة من القصائد عديمة الروح، يجب أن أتوقف لفترة، مفلس ومتوجه إلى اللامكان".

كتاب "أحييك في بداية مسيرة أدبية عظيمة" احتفال باليوبيل الذهبي لجيل الرفض الأمريكي

"قاديش" الصلاة والقصيدة

القصيدة التي لا تقل في أهميتها عمّا أنجزه غينسبيرغ في "عواء"، التي كتبها إلى روح أمه التي حُرمت من شعائر الصلاة على روحها بسبب قلة الحاضرين في الجنازة، اكتملت ووصلت إلى شكلها المثالي بحضور من "كيراواك"، يذكر غينسبيرغ في رسالة لفيرلنغتي بأنه اقتطع من القصيدة خمس صفحات، وبأنه مقتنع بها تمامًا وبشكلها الرباعي الأخير، وأن الكتاب القادم سيكون كتابًا متوحشًا في الحجم وفي الأثر، يكتب غينسبيرغ لصديقه الناشر ما يخص الانتهاء من الكتاب والموافقات المتعلقة بذكر عائلته في معرض القصيدة: "عزيزي لاري (الاسم الثاني للورانس) هذا هو الكتاب الكامل، أعدت تحريره وتجميعه ويحتوي كل القصائد بين عامي 58 و1960 لقد وافق والدي عليه وسأرسل لك الموافقات من إخوتي أيضًا، سيكون كتابًا ضخمًا، وأنا الآن أسحب كل الشكوك التي راودتني حول القصيدة مسبقًا، حسنًا حسنًا، ألن غينسبيرغ".

نستطيع اعتبار إصدار كتاب "أحييك في بداية مسيرة أدبية عظيمة" هذا العام ليس إلا احتفالًا باليوبيل الذهبي لجيل الرفض، وبصداقة الشاعرين الوطيدة، وبهذا تكون دار النشر سيتي لايتس قد فتحت الباب على قطعة كبيرة من تفاصيل حياة شاعرين مهمين في تلك الحقبة، الرفاق الذين حركوا حرية التعبير بطريقة جذرية منذ الخمسينيات إلى الآن، وحاولوا التعبير عن أنفسهم بحرية بالمقام الأول. وكما قال غينسبيرغ ردًا على طلب مقابلة معه: "إذا كانت الصحافة تعتقد بأن لدينا ما نقوله على شكل تصريحات رنانة فهذه مصيبة، نحن أردنا أن نعبر عن أنفسنا فقط بحرية واسعة غير مقيدة".

اقرأ/ي أيضًا:

من يكتب عن كتّابنا المزيفين؟

لطيفة الزيات.. عشرون عامًا على الرحيل