24-يناير-2016

هشام جنينة

هل يسأل الرئيس السيسي عن هشام جنينة حين يدخل السجن؟ وهل كان ينتظر تقاريره حتى يعرف حجم الفساد في مصر؟ وهل لديه إرادة سياسية لمحاربة الفساد أم لعزل جنينة؟ سيسارع من يؤيد الدولة "العقيمة"، ويعتبرها رمزًا للعدل والحق والتهوين في زمن التهويل، إلى شهادة إنها تملك الحقيقة المطلقة، وتستغفر الله لها ولنا، وتندفع إلى مسعاها بطاقة روحية، وقوة خير، وأحلام عظيمة اندفاعًا يليق بطهر مهمتها.

دخلت مصر مرحلة الغباء السياسي "المتوحّش"، فلا رجل حكيم داخل النظام يخفف هَوْل فساده

سيقول إن الدولة تسبح على أنهار من فساد الموظفين لا فساد الكبار، وعلى من يريد أن يحاسبهم أن يقتحم مكاتبهم الصغيرة، ويتعاون مع أجهزة الأمن في عملية تطهير وتنظيف كبيرة لموظفي الدرجة الثالثة. 

من يؤيد هشام جنينة سيقول إنه رمز العقل، ورجل الحق الأول والأخير، والقابض على جمر الفساد بيمينه ويساره، والكل لا يريد له أن ينجح لأن كلنا فاسدون، وإلا فلماذا لا يرد أحدهم على تقاريره التي تقول إن "الفساد للركب"؟ (جملة اعتراضية: كلمة "الفساد للركب" لها تاريخ في مصر، وهي اعتراف زكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية في عصر مبارك، داخل البرلمان المصري معارضًا النظام، الذي كان جزءًا منه. انتبه إلى أن الدولة كانت تعترف بفسادها وطغيانها على ألسنة أعتى رجالها).

الآن، دخلت مصر مرحلة الغباء السياسي "المتوحّش"، ولا رجل حكيمًا داخل النظام يخفف هَوْل فساده، والفساد هنا لا يمسّ الرئيس، ولا رجاله المقرَّبين، إنما يخص جهات تسارع إلى وصف جنينة بالشيطان الرجيم الذي لا يريد للدولة أن تستقر، ولا لعجلة الإنتاج أن تدور، وتعتبر تقاريره "رمي جتت" أمام عجلاتها التي تدوس الجميع قبل ذكرى "25 يناير".

على الجانب الآخر من الصورة، تقف أجهزة أمن متعصّبة خاضعة لمبدأ أمني متحجّر يقول إن كل من لا يقف بين يديها خاشعًا كما يقف بين يدي مولاه فهو عدوها، يريد تفجير الدولة، لا تفترض مثلًا إنه يريد تفجير هذه الأجهزة، وهذا كل ما في الأمر!

ثم إن الذي "يرمي بلاه"، حسب القول المصري، علي المستشار جنينة لا يسأل نفسه: هل الرجل إذا قدّر حجم الفساد بـ600 مليار جنيه واكتشفت "لجنة الرئيس السيسي" أنه لا يزيد عن 200 مليار، نحاسبه ونصلبه في الصحف والقنوات ونطلق عليه كلاب النظام لتنهش لحمه أم نشكره على كشف ثلث فساد دولة بالكاد تتعافي من لصوصها وكلابها والهاربين برصيدها في البنك!

أعداء هشام جنينة يروّجون أنه إخوان، يلاعبونه ويتعمّدون تشويهه وشرخ الصورة الوطنية التي رسمها لنفسه لأن قرار تعيينه موقع باسم محمد مرسي، ولا يلتفتون إلى أنهم بما يحاولون اثباته يشوّهون الرئيس السيسي نفسه. لن أقول إن السيسي أيضًا تمّ تعيينه في عهد مرسي، كلام قديم وتافه ومستهلك، لكن علاقة السيسي بجنينة متينة ولا يعلمها إلاهما، يمكن فقط أن ترجع إلى كواليس عزاء أم السيسي، الذي كان حضوره بدعوات رسمية من الرئاسة.

السيسي بنفسية رجل الأمن ينقذ دولته ويحافظ على استمرارها بوجود هشام جنينة

في جو روحاني وحزن مصطنع حاول الجميع أن يصبغوا وجوههم به، تقدموا إلى صاحب العزاء، وواسوه، الفراق صعب وأليم، والفقيد عزيز، ففي هذا اليوم فارق الرجل من كان الله يكرمه من أجلها. كان السيسي يستقبل المعزين ويودعهم بكلمة رقيقة وسريعة، ماعدا هشام جنينة الذي تقدم إليه واصطحبه إلى مقعده داخل ساحة العزاء!

اللقطة السريعة تبدو مدخلًا إلى علاقة خاصة وسرية بين السيسي وجنينة، والسؤال الآن: لماذا يقدّره الرئيس ويتواصل معه بشكل شخصي، رغم كل ما يرفع إليه من تقارير أمنية تتهمه بالإرهاب والأخونة والتخطيط لهدم الدولة؟ وإذا اقتربت من الصورة أكثر ستكتشف إنها مدخل لفهم شخصية رئيس المركزي للمحاسبات، فالسيسي يرى جنينة موظفا بيروقراطيا مخضرمًا قضى عمره المهني وتجربته الحياتية والوجودية كلها داخل مؤسستي الشرطة والقضاء، لا علاقة له بالحركات الثورية، ولا يعرف معنى الثورة، ولا يحاول هدم النظام أو اغتياله أو توريطه بمناورة إخوانية إنما يقوم بعمله رقيبًا على شخصيات سادية وسيادية تلتهم ما كسبت يداها دون تردد، ولا تلتفت إلى ما تقدم من ذنبها وما تأخر. 

لكن هشام جنينة يلتفت، ويحسب عليهم النفس الداخل والخارج، ويدرك إن مركب الدولة بدون إصلاحات من الداخل، وعملية تطهير جزئي للفساد، وحد أدنى من قواعد العمل البيروقراطي ستغرق. جنينة يزن المعادلة، رجل عاقل يصدّ عصابات مجانين تحكم الدولة، وترفض تقديم أي تنازلات عن مصالحها وامتيازاتها وفيلاتها ويخوتها وحساباتها في البنوك.

والسيسي بنفسية رجل الأمن ينقذ دولته ويحافظ على استمرارها بوجود جنينة. ستسأل: كيف؟ سأقول: يفهم إنه يريد إنقاذ الدولة بقدر من العقلانية والحكمة لكي لا تصل إلى "هَوَس نظام مبارك" بالثروة والسلطة، ويدير ملكه بالصراع، يصنع معركة بين أجهزة الدولة وبعضها، وبينها وبين هشام جنينة، وبين المركزي للمحاسبات والرقابة الادارية لكي يحتكم الجميع اليه، ولا يتآمر أحدهم ضده.

جنينة في النهاية أحد رجال نظام السيسي، لا يخونه إنما يقدم له أدلة فساد الآخرين التي يستطيع أن يعزلهم بها حين تنتهي مهمتهم. وهل رجل المحاسبات الذي مرّ بسلك الأمن وتدرّج في القضاء حتى وصل إلى أخطر منصب رقابي في الدولة يحارب رجالها؟ لا، الرجل يؤدي عمله - مكافحة الفساد - في حدود عِلْمِه، والدولة تؤدي واجبها في حماية الفساد في حدود استطاعتها.

كل جهاز يؤدي دوره في خدمة النظام، يد تدعو، ويد تحمل السلاح، فلا ترفعوا هشام جنينة إلي مراتب القديسين، والأنبياء، فالأنبياء لا يحافظون للأنظمة علي أسباب وجودها، وهو دور جنينة الذي يؤديه دون أن يدري، والدولة لا تحاربه لأنه "إخوان" بل لأنها تحافظ على قواعد اللعبة.. تدافع وتهاجم، وتسجل أهدافا في دقائق قاتلة، ولا تغضب حين تخترق شباكها أهداف العدو، فلا أعداء حقيقيين ولا أصدقاء دائمين في دولة العبث، ولا أحد سيحاسب في النهاية، لا جنينة سيدخل السجن، ولا الأجهزة التي تشوهه ستغلق أبوابها وتذهب إلى الجحيم أو سجن طرة!

كل القرود تعاير بعضها في حدود وضعتها قواعد الجبلاية.. عمرك شفت قرد اتسجن؟

اقرأ/ي أيضًا:

25 يناير الخامسة.. كي لا يكون الندم

مصر.. ستنتصر الحياة للمشاغب