11-أغسطس-2022
(GETTY) آثار العدوان على غزة 2022

(GETTY) آثار العدوان على غزة 2022

في موجات التطبيع الأخيرة، وفي ما ترتب عليها من تماه مع سرديات الصهاينة وتخاريفهم، بدا واضحًا ميل المطبّعين إلى تطبيع جميع ما يرتبط بالقضية الفلسطينية بهدف التعامل معه بوصفه شأنًا عاديًا ومألوفًا، وليس حالة استثنائية.

يستنكر البعض تضامننا مع غزة، وحزننا على شهدائها، لأنه يرى بأن العدوان عليها أصبح أمرًا مألوفًا ومتوقعًا لا يستحق الاهتمام

وفي ميل هؤلاء سعيٌ صريحٌ، وعلني، لنفي وإنكار صفات مثل الاحتلال والشتات والتهجير والحصار والتطهير العرقي، ثم استبدالها بمصطلحات أخرى تضفي عليها صفة "العادية"، بحيث لا تعود نتاج "الاحتلال"، وإنما مجرد أمور عادية ومألوفة لا يهم متى وكيف ولماذا وقعت.

لم يكن العدوان الأخير على قطاع غزة بعيدًا عن هذه المساعي، إذ حاول البعض تطبيع جرائم الاحتلال بحق سكانها عبر ربطه بوجود "تنظيمات إرهابية" من حقه "الطبيعي" الدفاع عن نفسه إزاء اعتداءاتها أحيانًا، أو من خلال القول بأن ما يحدث في القطاع شأنٌ طبيعي مألوف ومعتاد لا يستحق الاهتمام، ولا يستدعي التضامن، في أحيان أخرى.

فما الجديد في قصف غزة وقتل أهلها؟ ما الجديد في هذه المساحة الجغرافية المحاصرة التي لا تعرف سوى الموت والخراب منذ عقود؟ يتساءل البعض مستنكرًا تضامننا مع أهلها، وحزننا على شهدائها وذويهم. الأحرى أنه يستنكر صدمتنا ودهشتنا وذهولنا مما يراه حدثًا عاديًا مألوفًا ومتوقعًا لشدة تكراره، وكأن تكرار الجريمة يجعلها حادثة طبيعية، بل ويبررها أيضًا!

لكن ما يحدث هو العكس تمامًا، فتكرار الجريمة لا يبررها وإن جعلها مألوفة. وليس كل مألوف طبيعي، ولن يكون. ذلك أننا نعرف جيدًا لماذا تُقصف غزة ويُقتل أهلها، ونعرف من يقصفها ويقتلهم، ولماذا يفعل ذلك.

كما أننا نعرف بأن الغاية من تطبيع موت الفلسطيني، وكذا تهجيره من أرضه وشتاته، والتعامل معه بوصفه حدثًا عاديًا يقع دون فاعل/ مجرم، شأنه شأن الكوارث الطبيعية، هي تطبيع وجود الكيان الصهيوني الذي لو كان طبيعيًا حقًا لما حاولوا تطبيعه.

لذلك لا تزال غزة تستدعي ذهولنا ودهشتنا وشعورنا بالأسى. الصور القادمة من هناك لشهدائها وذويهم تقلص المسافة بيننا وبين ألمهم وفجيعتهم، وهذا أمر طبيعي في مشهد غير طبيعي يريد له البعض أن يكون طبيعيًا، لا لشيء إلا لأنه مألوف ومتوقع!

يغيّب هؤلاء في حديثهم عن "الطبيعي" و"المألوف"، وفي استنكارهم لتضامننا مع غزة، ضحايا العدوان عليها شهداءَ وجرحى. الأحرى أنهم يسقطونهم من المشهد عمدًا حتى يصير من السهل عليهم الادعاء بأن كل ما يحدث سبق وأن حدث، فما الحاجة إلى الدهشة؟ وفي تغييبهم للضحايا ادعاءٌ مضمر، ووقح، بأن صواريخ جيش الاحتلال وقنابله تسقط على فراغ، في مكان آخر لا بشر فيه.

الغاية من تطبيع موت الفلسطيني، والتعامل معه بوصفه حدثًا عاديًا وقع دون فاعل/ مجرم، هي تطبيع وجود الكيان الصهيوني نفسه

يريد هؤلاء أيضًا الانفراد في تحديد من يستحق أن يُحتسب ضمن خانة الضحايا، ومن يجب أن يكون موته عابرًا لا قيمة له. بل، أكثر من ذلك، يريدون تحديد كمية الحزن الذي تستحقه غزة وأهلها وشهدائها الذين بات موتهم مألوفًا ومتوقعًا، تمامًا كما لو أن عليهم الموت بطرق جديدة، ومفاجئة، حتى نتضامن معهم! كما لو أن موتهم بهذه الطريقة بات مملًا!

لكن هذه الإرادة في تطبيع موت الفلسطيني، وإنكار كل ما يتعلق بقضيته، لا تتجاوز أصحابها. هذا بالضبط ما تقوله حملات التضامن الواسعة مع غزة في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لا يزال ما يحدث فيها صادمًا وغير طبيعي، شأنه شأن الاحتلال.