02-يونيو-2018

أصبح الفلسطينيون هم الفهود السود الجدد في عين الصحافة الأمريكية (Getty)

إبّان المجازر في غزة في نهاية مارس/آذار 2018، كانت الصحافة الأمريكية، بما في ذلك الصحف "الليبرالية"، منشغلة بالدفاع عن القاتل الإسرائيلي، تارة بإخفائه، واستخدام صيغة المبني للمجهول، وإيراد الأخبار عن ضحايا غزة وكأنهم قتلوا لوحدهم، أو في كارثة طبيعية، وتارة أخرى بتبرير القتل، من خلال اتهام حماس بإرسال السكان العزل إلى مرمى السلاح الإسرائيلي، لكن أيًا من هؤلاء لم يندد بهذا السلاح نفسه. وكما يبين هذا التقرير المترجم عن مجلة جاكوبين، فإن تغطية ما حدث في غزة في الصحافة الأمريكية، كان يشبه تغطية البطش بالنشطاء السلميين الأفروأمريكيين والمناضلين من حركة الفهود السود في ستينيات القرن الماضي. ثمة مشترك واضح ورئيس، وهو تحميل القتلى إثم دمهم ووزره.


عندما تقوم حكومة بإطلاق النار على أفراد مجموعة مضطهدة تشارك في عصيان مدني، من الطبيعي أن تنتابك عدة مشاعر، الصدمة والأسى والغضب على سبيل المثال. لكن إن شعرت بأي من هذه المشاعر أمام مشهد القمع الوحشي الإسرائيلي للمتظاهرين الفلسطينيين الأسبوع الماضي، فلدى وسائل الإعلام السائدة رسالة تود إخبارك إياها: لا تقلق بشأن ذلك.

ليس من العجيب أن يبدو ناقدو لوثر كينج المؤيدون للتمييز العنصري تمامًا مثل المدافعين عن اسرائيل

وصف مجلس تحرير صحيفة واشنطن بوست هذه المظاهرات التي حاول فيها الفلسطينيون عبور السياج الحدودي الفاصل بين غزة واسرائيل قبل أن يواجهوا الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي والمطاطي، بأنها نوع جديد من "الحرب"، استخدمت فيه حماس "مدنيين صوريين" لتنفيذ عصيان مدني على أمل أن يقتل الكثير منهم. النتيجة النهائية وفقًا للتقرير كانت "خسارة أخلاقية وسياسية لإسرائيل".

اتهم توم فريدمان، المعروف بمواقفه الترويجية المدفوعة لصالح سعودية ابن سلمان، ناهيك عن صهيونيته الطافحة، من صحيفة نيويورك تايمز حماس، الجماعة الحاكمة في غزة التي تتهم خطأً وعلى نطاق واسع بأنها القوة المحركة خلف المظاهرات، بأنها تقدم  "قرابين بشرية"، وأضاف قائلًا: "حين تلقي بآلاف من الشباب، بزهرة شبابك ضد سياج اسرائيلي، بغرض الدخول إلى إسرائيل وبعضهم محاطون بمقاتلين من حماس، فلا شك أن كثيرًا من الناس سيسقطون صرعى. لم تكن إسرائيل لتفتح لهم الحدود وحماس تعلم ذلك".

وكتب الكاتب الصحفي المحافظ بريت ستيفنز: "نحن نسمع كثيرًا عن معاناة غزة. دعونا لا ننسى أن خالقي هذه المعاناة هم أيضًا ضحاياها المفترضون".

تساءل ستيفنز عن سبب انعدام الغضب تجاه حقيقة أن "حماس ظلت تحث الفلسطينيين للتحرك نحو السياج"، حتى بعد التحذيرات التي وجهتها لهم إسرائيل بأن لا يفعلوا ذلك، أو سبب وجود النساء والأطفال في الصفوف الأولى. وأضاف غاضبًا: "كان حريًا بهذا السلوك بأن ينعت بالتهور الخطر. كان ليدان باعتباره سلوك تدمير ذاتي جبانًا وساخرًا إلى أقصى حد".

اقرأ/ي أيضًا: موت الفلسطيني "الغامض".. وقفة مع التضليل في الإعلام الأمريكي!

ومتفقًا مع كاتب رأي آخر في مجلة التايمز، اتهم ديفيد بروكس الفلسطينيين بأنهم "ذوي تفكير مسرحي" يهدف لخلق "عرض فدائي يظهر للعالم مدى الظلم الواقع علينا"، عرض "ساخر" و"مسياني" في آن. في هذه الأثناء اشتكت باري وايز في برنامج بيل ماهر من أنه تم توقيت التظاهرات لتتزامن مع افتتاح السفارة الأمريكية في القدس لخلق أسوأ صورة ممكنة وأكثرها ضررًا. وأضافت قائلة "دعونا لا نسقط في الفخ الذي أعدته لنا مجموعة سلطوية تحكم باسم الدين وترسل النساء والأطفال كدروع بشرية".

من الصعب تخيل استخدام هذه الحجج والآراء المنفرة والبغيضة ضد أي مجموعة أخرى تتعرض للقمع. لكن ليس علينا أن نتخيل لأنه قبل خمسين عامًا من الآن استخدم أسلاف بروكس وستيفنز ووايز نفس المنطق وطريقة التفكير لمهاجمة مارتن لوثر كينج وحركة الحقوق المدنية.

في يوم 20 نيسان/أبريل عام 1965 نشر مقال رأي في مجلة the National Review بعنوان "عنف اللاعنف"، كتبه المحرر الأساسي بالمجلة فرانك ماير، اتهم فيه نهج كينج المسالم بأنه ينطوي على "جوهر عنيف" لأنه قائم على "استثارة العنف". وبسبب دفعه لممارسي التمييز العنصري إلى اللجوء لرد عنيف، لم يكن كينج متهمًا فقط بـ "النفاق على مستوى كبير" بل بأنه يهدف في النهاية إلى "تدمير عمل الحكومة الدستورية". تمامًا كما وُصف العصيان المدني الفلسطيني الحالي بأنه نوع جديد من الحروب، اعتبر ماير أن حملة العصيان المدني للفقراء التي قادها كينج مثلت "طرقًا للتمرد".

على نفس المنوال اشتكى الكاتب المحافظ في مجلة التايمز ليونيل لوكوس، الذي ألف سيرة كينج المشكوك في صحتها بعد وفاته، من أن نجاح كنيج اعتمد على التهديد وإثارة العنف، تاركًا خلفه تاريخًا من "الخروج عن القانون". عندما فاز كينج بجائزة نوبل، أكدت وكالات الأنباء الأمريكية والتقارير العالمية على أن الأمريكيين يعتقدون أنه "من الغريب منح الجائزة لرجل بنيت شهرته على معركته للحصول على الحقوق المدنية للزنوج والتي أدت نشاطاته إلى العنف". قبلها بسنوات اندلعت اعتصامات في جميع أنحاء الجنوب، واتهم نائب جورجيا السيناتور ريتشارد راسل حركة CORE /مؤتمر المساواة العرقية بأنها تحاول تأليف الانتفاضات العرقية في الجنوب حتى يكون بإمكانهم جلب "حادثة مريعة" إلى مجلس الشيوخ، وتبرير تشريع قانون الحقوق المدنية.

ليس من العجيب أن يبدو ناقدو كينج المؤيدون للتمييز العنصري تمامًا مثل المدافعين عن اسرائيل، خصوصًا وأن مسيرات الحقوق المدنية تبدو مشابهة تمامًا للمظاهرات الفلسطينية الأخيرة. على نفس النحو سارت مظاهرات السود المطالبة بالحقوق المدنية في الستينيات منزوعة السلاح على الرغم من معرفتهم أنهم سيجابهون بقمع وانتقام قوات الشرطة المحلية، وهوجمت صفوف المتظاهرين من قبل الشرطة الجنوبية باستخدام الكلاب وخراطيم إطفاء النيران والهراوات وكان من بينهم أطفال ونساء.

هل كان سيرفض فريدمان "القرابين البشرية" التي قدمها كينج والمنظمون الآخرون لمسيرات الحقوق المدنية؟ 

هل كان بإمكان أي من كتاب الرأي هؤلاء أن يستخدموا مثل هذه اللغة لإدانة متظاهري حركة الحقوق المدنية، مطالبين القراء بتجاهل مشاعر الغضب والظلم المبررة؟

هل سيرفض توم فريدمان "القرابين البشرية" التي قدمها كينج والمنظمون الآخرون لمسيرات الحقوق المدنية، بإرسالهم المتظاهرين ليواجهوا الشرطة المسلحة؟ هل سيغضب بريت ستيفنز من أفعال "التدمير الذاتي الجبانة والساخرة إلى أقصى حد" لقيادة حركة الحقوق المدنية؟ هل ستحثنا باري وايز على "عدم السقوط في الفخ" الذي نصبته مجموعات الحقوق المدنية التي ترسل "النساء والأطفال ليكونوا دروعًا بشرية؟" هل ستعتبر واشنطن بوست الطريقة الذكية التي حاول بها "المدنيون الصوريون" مثل مجموعات ركاب الحرية تحقيق الهزيمة "الأخلاقية والسياسية" للجنوب؟ على الأرجح لن يفعلوا ذلك.

اقرأ/ي أيضًا: محفل بروباغندا ابن سلمان الغربي.. غراميات توماس فريدمان

وصمت حركة الحقوق المدنية عالميًا منذ وقت طويل بأنها حركة خيرة، حتى بين أولئك الذين كانوا ليعارضونها بقوة لو كانوا قد شهدوا بزوغها قبل 50 عامًا. لهذا يحاول نفس السياسيون الذين يكيلون عبارات المديح لقادة مثل كينج ونيلسون مانديلا لاستجلاب التصفيق العلني، أن يجرموا وسائل المقاومة التي استخدمها هؤلاء الرموز ما إن توجه ناحية إسرائيل.

في حين هاجم مفكرو الماضي المحافظون مثل ويليام باكلي حركة الحقوق المدنية ودافعوا عن التمييز العنصري، فإن محافظي اليوم قد طوروا من خطابهم كذلك. يحب كتاب رأي مثل بروكس ووايز وستيفنز اقتباس مقولات كينج ليدعموا بها أي وجهة نظر يريدون الدفاع عنها في اللحظة. مع ذلك يبدو أنهم يستخدمون كينغ وحركته باعتبارهم نوعًا من السلطة الأخلاقية الجاهزة للاستخدام بغض النظر عن الدروس الحقيقية التي يقدمونها.

في الحقيقة لدى كينج تفسير فعلي للمبررات التي يقوم عليها نوع العصيان المدني الذي انخرط فيه هو ورجال ونساء وأطفال غزة.

قال بهذا الشأن عام 1965: "يهدف برنامجنا في اللاعنف لا إلى خلق التوترات بل إبراز التوترات القائمة بالفعل إلى السطح. لقد انطلقنا لخلق موقف مأزوم يفتح الباب للتفاوض، أنا أعارض العنف من أعماق قلبي لكن الأزمة البناءة والتوتر ضروريان للنضج والمضي قدمًا".  

من يبرر للقاتل الإسرائيلي اليوم كان سيقف مع المجازر ضد السود في الستينيات لو أن قلمه عاصرها

بعد مسيرة سيلما كتب كينج قائلًا: إنه يريد "أن يهول من وجود الظلم". كان مدركًا تمامًا "أن مقاومة العنصريين باستخدام العنف" ضد المتظاهرين كانت خطوة رئيسية لتحقيق أهداف الحراك، لأنها ستوقظ ضمائر الأمريكيين الذين كانوا يراقبون الموقف. عندما أدركوا أنهم سيواجهون بحائط صد مكون من أفراد الشرطة خلال المسيرة الثانية، لم يسمح كينج للمتظاهرين بخرق التزامهم باللاعنف عبر اختراق الجدار، لكنه "شعر بأننا يجب أن نزحف حتى النقطة التي يبدأ فيها الجنود بالتوحش ضد الناس يوم الأحد حتى لو عنى هذا وقوع عنف واعتقالات وحتى سقوط قتلى".

بلا شك، يود كتاب الرأي هؤلاء الذين قضوا الأسبوع الماضي في محاولة إيجاد أعذار للعنف الإسرائيلي وإلقاء اللوم على المتظاهرين الفلسطينيين، أن يعتقدوا أنهم كانوا سيقفون في صف مئات المتظاهرين الذين واجهوا وحشية الهراوات والغازات المسيلة للدموع على جسر إدموند بيتوس. لكن ضعهم على الطريق إلى مونتغمري في ذلك اليوم الربيعي عام 1965 وسترى بوضوح في أي جانب من الجسر سيقفون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل

في انتقائية الإعلام الغربي.. الكراهية تبيع أكثر!