07-أبريل-2021

مظاهرة في بيروت، في أيلول/سبتمبر 2020، حيث استبدل اللون الأحمر في العلم اللبناني بالأسود دلالة الحداد (Getty)

التأويل الفوكوي لما يحدث اليوم في العالم هو أن "السُلطة الحيوية" تنشط على أفضل وجه. ونحن أمام ابتذال واضح للمفهوم، أوضح تجلياته تكمن في رداءة استخدام الشعبويين للفكرة، واستغلال مفاهيم فضفاضة مثل الحرية والديموقراطية لإنتاج البذاءة، كما يسمّي أكسل هونث هذا الاستخدام. وأكسل هونث، أحد كبار مدرسة فرانكفورت، ومِن المتأخرين فيها، هو مصدر أساسي لتأويل مضاد، حيث يؤكد بصيّغ غير مباشرة أن الدعوة لارتداء الكمامات والتباعد الاجتماعي، بالإضافة إلى ضرورة مشاركة كل المعلومات المتوافرة حول الوباء مع الرأي العام، هي من لوازم "التضامن الإنساني". على أبواب الموجة الرابعة، يمكن أن نلاحظ، أن هناك ثلاثة أنواع من الحكومات، أو الأنظمة عمومًا، في كيفية تعاطيها مع الأزمة.

خيار المواجهة من داخل الأطر الديموقراطية أدى إلى تراجع مستوى الهلع الجماعي من الكورونا

النوع الأول، هو الأنظمة ذات الرأس الواحد، سواء كان هذا الرأس حزبًا، أو شخصًا، أو حتى فكرة. تفاوتت قدرة هذه الحكومات على التعامل مع الوباء، وغالبًا فشلت وانهارت منظوماتها الصحية كما كان متوقعًا. لكن، وفي بعض الأحيان، وفي دول تتسم وتوصف بالشمولية، كانت سياساتها بمحاصرته ناجحة. سواء اتفقنا مع النظام السياسي في الصين، أم لم نتفق مع ذلك، فإن الصين نجحت في احتواء موجات كورونا اللاحقة نسبيًا.

اقرأ/ي أيضًا: المحرقة اللبنانية

النوع الثاني هو الأنظمة الغربية التي تقدّم نفسها كأنظمة ديموقراطية. معظم هذه الدول عانت من التخبط في البداية، وارتبكت مؤسسات الرعاية الصحية بوضوح تام فيها. سرعان ما فهمت هذه الدول أن أفضل طريقة ممكنة لمواجهة الحقائق المتعلقة بكورونا، هو مشاركة هذه الحقائق مع الشعوب. ذلك لا يلغي أن التخبط بقي مستمرًا، وأن إجراءات الاغلاق الشامل كانت تنصلًا واضحًا من المسؤولية. لكن خيار المواجهة من داخل الأطر الديموقراطية أدى إلى تراجع مستوى الهلع الجماعي، وإيقاف استغلال اليمين للجائحة لبث خطاب الكراهية. ذلك لا يلغي أن هذا الخطاب تفشى في صفوف الذين يعتبرون أنفسهم معتدلين، وذلك لصرف النظر عن سوء إدارة الأزمة.

النوع الثالث وهو الأسوأ حسب تحليل هونث نفسه، هو الحكومات الشعوبية، التي هي نتاج ديموقراطيات داخلية تتفاوت في نسبة ديموقراطيتها، إن كان ذلك في الولايات المتحدة الأمريكية، البرازيل، والهند. وليست هناك صعوبة كبيرة، في التأكد من سوء إدارة أزمة الوباء في الدول الثلاثة المذكورة بلغ مبلغًا رهيبًا، لعدة أسباب، أهمها من الناحية الظواهرية، هو عدم الاعتراف بوجود وباء، ثم الارتباك، والانتقال إلى الانهيار. وليست مصادفة، أن تكون الشعبوية هي العامل المشترك في الجو السياسي العام المهيمن على تصرفات حكام هذه البلاد.

هناك ثمة نوع رابع على هامش الكوكب. لبنان. لكي لا نبالغ، يشبه لبنان الكثير من الدول العربية وغيرها. تخبط في إجراءات الاغلاق العام، تسرب في توزيع اللقاحات حسب النفوذ والإمكانات، تأخر في وصولها وتحليلات فارغة حول طبيعتها، ارتباك في النظام الصحي، وأشياء أخرى من هذا النوع، التي لا يمكن القول إنها تحدث فقط في لبنان. لكن ثمة استثناءات لبنانية عجائبية، مثل المنصة الإلكترونية التي تمنح الأذونات للناس للذهاب إلى المولات (المجمعات التجارية)، حيث يمكنهم الاحتشاد هناك، بإذن أو بدونه، والتقاتل على آخر قنينة زيت بسعر مدعوم. ليس هناك "سلطة حيوية" في لبنان، في موضوع كورونا تحديدًا. هناك ما يكمم الأفواه قبل الكمامات. فوكويًا أيضًا، هناك إعجاز لبناني مشرّف، يتمثل بما يشبه الاختزال الرديء لعلاقات القوة، يعبْر عنه أشاوس المجتمع المدني بشتم نتائج الانتخابات بين الحين والآخر. يردد هؤلاء فيما بينهم النكتة الساذجة عينها أن الانتخابات سيئة، ومفادها أن اللبنانيين "أنتجوا هذه السُلطة بالانتخابات". سرعان ما قد يعيد الأشخاص نفسهم التأكيد على العكس، وينتبهون إلى أن الانتخابات مهزلة فهي ليست الحادثة السحرية التي تنتج السُلطة فعلًا في لبنان. فزورة الفزازير.

يشبه لبنان الكثير من الدول العربية. تخبط في إجراءات الاغلاق العام، تسرب في توزيع اللقاحات حسب النفوذ والإمكانات

إلى ذلك، ليست هناك شعبوية واضحة يمكن الإشارة إليها بالإصبع. لدينا "شعبويات" متنوعة. أما الديموقراطية، ومشاركة ما توافر من معلومات مع الرأي العام، فيقتضي أن يتوافر شيء ما، حتى يمكن مشاركته، أو توافر رأي عام جاهز الاعتراف بكونه عامًا. عمليًا، توافرت جرعات قليلة من اللقاح، فتمت مشاركتها مع بعض النواب، ومع مجموعة من الذين استطاعوا شراءها. ولكي نفترض حسن النية، ربما تبخّرت اللقاحات الضئيلة فجأة من تلقاء نفسها أيضًا. هناك ما هو أسوأ من كل هذا. تبخر الدواء، أو السكوت عن تبخر الدواء، كما لو أن لبنان بلغ من المرض ما يسمّونه بالمرحلة الرابعة. المرحلة التي يكون فيها السرطان قد نهش رغبة الخلايا بالحياة تقريبًا، ولم يعد هناك أي فائدة للعلاج.

اقرأ/ي أيضًا: السيستم بدلًا عن المؤامرة

داخل أحد الصيدليات في بيروت، دخل أربعة زبائن مختلفين خلال خمسة دقائق بالضبط. وكان كل واحد/واحدة منهم يحمل علبة فارغة للدواء الذي يبحث عنه. تبيّن أن الأدوية التي طلبوها تباعًا كانت جميعها مقطوعة. لم تبد علامات الاستغراب على أحد من هؤلاء، في بلد كان نظامه الصحي حتى وقت قريب متقدمًا نسبيًا، وإن كانت الامتيازات محصورة بالأغنياء، وكانت أرباح المستشفيات هائلة، مثل أرباح الحيتان هنا عمومًا. طأطأ المتعبون رؤوسهم وغادروا الصيدلية، باستثناء امرأة واحدة جاءت من أجل دواء الأعصاب. امرأة على عتبة الستين. نفترض أنها، في مثل هذه الظروف، لا تكترث غالبًا بالديموقراطية أو بالانتصارات الكبيرة والصغيرة، وأن كل هذا بالنسبة لها سيبدو مملًا، فكيف سيكون الحديث عن "السياسة الحيوية" أو عن القضايا الكبرى. وقفت تهز بعلبة الدواء أمام الصيدلي الذي كرر أسفه لأن الدواء ليس موجودًا. لكنها بقيت تهز علبة الدواء بدون توقف. قالت إنه لم يعد لديها أعصاب، ثم أجهشت بالبكاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة ضد اللقاح الطائفي

مدن معولمة تدمغها ستاربكس