21-مارس-2021

بيروت 16 آذار/مارس (Getty)

يبدو إحراق الإطارات أشبه بمسرحة رديئة لعملية احراق البلاد المحترِقة أصلًا. يشارك الجميع في الحرق. الرافضون والمؤيدون، المهدِدون والمهدَدون. من يلتحق عن سابق تصور وتصميم، ومن يجد نفسه فجأة في منتصف الاعتراض. جميعهم يتشاركون الهذيان ذاته بالنار. يهددون بالحرب ويخافون من الحرب، يكررون جملًا من خمسين عامًا، ويعلنون أن تلك حقبة ماتت وأننا دفناها. المدافعون عن الحق بالحرق يدافعون عن النار، كآخر وسيلة ممكنة للفت الأنظار، آخر صوت يمكنه الصعود. أما الرافضون لقطع الطرقات، فهم لا يدافعون عن المدينة أو عن الطريق أو عن إرث الجغرافيا والعلاقات الحضرية، بل يدافعون عن الحق بالمبادرة، وعن رغبة الاستيلاء على النيران. في سوريا جرّبوا أمرًا مشابهًا. رُفِض الاعتراض ورُفِضت الأصوات حتى ذُبِحت ونزفت. وحدث الأمر نفسه في مصر وفي اليمن وغيرها. هناك صراع على النار، يتنازع فيه الطغاة وضحاياهم أطراف النيران، ويحاول الأولون إدارتها وتصويبها ضدّ أي احتمال للنجاة. يهددون بالخراب، والمعترضون وجدوا أنفسهم في الخراب ولذلك خرجوا يعترضون.

ما الذي يمكن تنتجه المؤسسة الأبوية سوى مزيد من الآباء. لا نجاة من المؤسسة ولا نجاة من الأبوية. المحرقة انتقام أبوي

ما الذي يمكن تنتجه المؤسسة الأبوية سوى مزيد من الآباء. لا نجاة من المؤسسة ولا نجاة من الأبوية. المحرقة انتقام أبوي.

اقرأ/ي أيضًا: مدينة الاشكمانات

أبوية الزعيم الذي يتحدث كما لو أن ازاحته ليست واردة، فهو على رأس العائلة/ القبيلة/ الطائفة، ولا يمكن إزاحته من هذا الموقع. الخيار ليس واردًا. والرعايا يوافقون وحجم موافقتهم ليس واضحًا. حتى عندما يحرقون الإطارات، فهم يتذمرون من إفراط الأب في استخدام سلطته، وليس من سلطة الأب بحد ذاتها. وإذا شاهدت التلفزيون هذه الأيام - وهذا خطأ كبير - ستعرف أن المتظاهرين في كثير من المناطق يريدون عودة رئيس سابق للحكومة، وأن متظاهرين آخرين يريدون حقوقًا للطائفة بوصفها قبيلة عملاقة، وأن اليأس مستفحل في المجتمع المدني اليائس أصلًا، الذي أنتج صيغًا متعددة في غاية الأبوية لمعاداة الأبوية. واليسار اللبناني في خطابه وسلوكه ليس أبويًا وحسب، بل أبوي أكثر من الأبوية نفسها. اليمين يبقى يمينًا. ولا وسطية. مجموعة من الآباء، من الذكور الذين تجاوزوا سنينًا مديدة، وهم يتسلطون، ويستهجنون بعد كل شيء، احراق بعض الإطارات. في النهاية لا بد أن يبدأ الناس من مكان ما، ولكن بالنسبة للآباء لا يوجد شيء اسمه زمن، ولا توجد بدايات.

أبوية المتظاهر، وهو يبعد متظاهرة من المكان. أبوية فيسبوك، الذي يسمح لك باستخدام مصطلحات خاصة ويمنع مصطلحات أخرى. أبوية المصرف الذي يمنح المودع مصروفًا شهريًا، ويحتفظ ببقية حساباته. أبوية العسكر. أبوية طلاب الجامعات الأجنبية وهم يتعالون طبقيًا على العسكر. أبوية الفنانين الذين يشعرون أنهم علماء اجتماع. أبوية الانفلونسر الذي يتقيأ خوارزميات. وأبوية التلفزيون، الذي يرتّب عرض الآباء بطريقة أحيانًا غير متساوية، ولكنه يحرص على ظهورهم جميعًا، وعلى إخفاء أي صوت آخر. للآباء حصة كبيرة من الشاشات المحلية، والإعلام اللبناني أبوي أيضًا. يفسّد لوزارة الصحة (النشيطة) على اللبنانيين عندما يقصدون شاطئًا عامًا، ولا يهتم كثيرًا بأبطأ وتيرة تلقيح في العالم. يُجري الإعلام مقابلات مع الآباء، بوصفهم قادة وسياسيين، ويحرص على نقل خطاباتهم وكلماتهم ومؤتمراتهم، ويعلن بخجله تضامنه مع الشعب بوصفه ابنًا ضالًا. تقذف المحطات التلفزيونية أبويتها في وجه المشاهدين، فتعرض الريبورتاجات الداعمة للتمرد، ثم تفرد المساحات للآباء لكي يوضحوا ويشرحوا ويعيدوا ذلك الموقف العبثي: باقون على صدوركم كالجدار. لا يُستخلص من حديثهم إلا أنهم لا نية لهم لتزحزح شبرًا واحدًا، وأن رحيلهم ليس ممكنًا، بكل بساطة لأنهم آباء، ولا يمكن تغيير الآباء. يأتون هكذا مرة واحدة، ولا يمكن تغييرهم. ولست بحاجة لكثير من المتابعة، لكي تلاحظ أن الآباء يتضامنون مع بعضهم البعض، عندما يتعرض موقع "الأبوة" نفسه للخطر. ينسون الماضي، ويتبادلون الغزل فيما بينهما: "قائد وطني/ رجل حكيم/ ابن عائلة سياسية عريقة/ مناضل/ إلخ إلخ إلخ...".

هذه اسمها محرقة.

تقطع الطرقات وتفتح كما لو أنها غرفة غاز. يتنشق فيها الضحايا كل دقيقة سم البقاء. وهناك من يسمّي هذا صمودًا، وهناك من يسمّيه معركة وهي خاسرة-خاسرة. وتبلغ الطرافة أحيانًا بتسمية كل هذا بأنه ثورة. عمومًا هذا اسمه يأس. ولا يعني هذا أن المحرقة هي الاسم الأنسب. ما يحدث في لبنان شيء بلا اسم. شيء لا يمكن وصفه، أو احتمال التفرج عليه، أو المشاركة فيه. ليس مهزلة أيضًا، لأن المهازل تدعو إلى الابتسام أحيانًا. شيء يجب الموافقة عليه، لكي تبقى داخل الزمن. لا يمكن الاعتراض على الاعتراض.  شيء يشبه السحابة السوداء الناتجة عن احراق كمية كبيرة من الإطارات، ثم اختفائها في السماء، ولكن مع بقاء الأثر: السرطان.

تقطع الطرقات وتفتح كما لو أنها غرفة غاز. يتنشق فيها الضحايا كل دقيقة سم البقاء. وهناك من يسمّي هذا صمودًا

اقرأ/ي أيضًا: بيروت أو مدينة أين

ما يحدث يشبه رجلًا، ليس الأول، وليس الأخير، يسكب البنزين على نفسه في منتصف الطريق، من شدة الجوع والعوز والذل. وليس ممكنًا أن توافق، بل إذا كنت واقفًا، فإن أول ما ستفعله، هو أنك ستحاول منعه، ويمكننا أن نذهب جميعًا في نقاش هادئ بالأخلاقيات. لكنك لن تعرف درجة الجوع التي يشعر بها، إلا إذا كنت جائعًا مثله. وقبل أن تستغرب لماذا أحرق نفسه، عليك أن تعرف أنك حتى الآن لست مكانه. وإذا وجدت طريقًا مقطوعًا فهذا للمفارقة يبعث على الأمل، لأن الطرقات السابقة لم توصل إلا إلى ما وصلت إليه سحابة الدخان الأسود الصاعدة إلى السماء!

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف كان وجه بيروت عام 1900؟

إعادة اكتشاف وسط بيروت