11-مايو-2023
هاروكي موراكامي

غرافيتي لـ هاروكي موراكامي

هنا ترجمة لقصة للكاتب الياباني هاروكي موراكامي، صاحب روايات "الغابة النروجية" و"كافكا على الشاطئ".


في أحد صباحات أبريل الجميلة، في شارع جانبي ضيق في حي هاروجوكو العصري في طوكيو، مررت بالفتاة المثالية تمامًا.

حقيقةً، هي لم تكن جميلة المظهر. ولم تكن مميزة بأي حال من الأحوال. لم يكن في ملابسها شيء استثنائي. كان الشعر في مؤخرة رأسها لا يزال فوضويًا ومبعثرًا من النوم. لم تكن شابة كذلك، بل ربما كانت تقارب الثلاثين من العمر، حتى إن وصف "فتاة" ربما لم يكن لينطبق عليها على نحو ملائم. ولكن رغم ذلك، عرفتُ من مسافة بضعة أمتار أنها الفتاة المثالية تمامًا لي. في اللحظة التي رأيتها فيها، دمدمَ صدري، وجف فمي مثل صحراء.

ربما لك نوعك المفضل من الفتيات: فتاة بكاحلين نحيلين، أو عينين واسعتين، أو أصابع رشيقة، أو ربما كنت تنجذب، دونما سبب، للفتيات اللاتي يتأنين في تناول كل وجبة. لي تفضيلاتي الخاصة كذلك، بالطبع. فأحيانًا، أجد نفسي أحدق في فتاة في الطاولة المجاورة بمطعم ما، معجبًا بأنفها.

ولكن لا يصح أن يصر شخص ما أن فتاته المثالية تمامًا تتفق وتوصيفًا مُسبقًا ما. فرغم إعجابي الشديد بالأنوف، أعجز عن تذكر شكل أنفها، أو حتى إن كان لها أنف. كل ما يمكنني تذكره بالتأكيد هو أنها لم تكن رائعة الجمال. وهذا غريب.

أقول لأحدهم:

- صادفت الفتاة المثالية تمامًا بالأمس في الشارع.

فيرُد:

= يااه! هل كانت جميلة؟

- في الحقيقة، لا

= إذًا، فهل كانت نوعك المفضلة؟

- لا أعرف، لا يبدو أني أتذكر شيئًا عنها، لا شكل عينيها ولا حجم ثدييها.

= هذا غريب.

- أجل، غريب.

يسترسل، وقد ملّ بالفعل:

= ماذا فعلت على أية حال؟ أحدّثتها أو تبِعتها؟

- لا، فقط صادفتها في الشارع.

كانت تسير من الشرق إلى الغرب، وكنت أمضي من الغرب إلى الشرق. كان ذلك أحد صباحات أبريل اللطيفة حقًا.

كم وددت لو كلّمتها. نصف ساعة كان ستكفي وأكثر: كنت سأكتفي بسؤالها عن نفسها، وأعرفها بنفسي، وما أحب القيام به، وأشرح لها تعقيدات القدر الذي أدى إلى تلاقينا في شارع جانبي في في حي هاروجوكو في أحد صباحات أبريل الجميلة من عام 1981. كان ذلك سيحفل بالكثير من الأسرار الدافئة، مثل ساعة عتيقة صُممت في زمن ملأ فيه السلام العالم.

بعد كلامنا، كنا سنتناول الغداء معًا، وربما شاهدنا أحد أفلام وودي آلِن، ومررنا ببار في أحد الفنادق لنتناول الكوكتيلات. وإن كنت محظوظًا، فلربما انتهى بنا الأمر إلى الفِراش.

الاحتمالات تطرق باب قلبي.

والآن، وقد ضاقت المسافة بيننا إلى خمسة عشر ياردة.

كيف يمكنني الاقتراب منها؟ وما الذي ينبغي أن أقوله؟

"صباح الخير يا آنسة. هل تظنين إن في إمكانكِ التعطف عليّ بنصف ساعة لمحادثة وجيزة؟".

هذا سخيف. أبدو كبائع بوليصات تأمين.

"عذرًا، ولكن هل يتصادف أن تعلمي إذا كانت هناك مغسلة تعمل طيلة الليل في الحي؟".

لا، هذا لا يقل سخافة عن ذاك. فأنا لا أحمل أي ملابس للغسيل. وكذلك، من ستقتنع بعبارة كهذه؟".

ربما ستكون الحقيقة البسيطة كافية.

"صباح الخير. أنتِ الفتاة المثالية تمامًا لي".

لا، لن تُصدق ذلك. أو حتى إن صدّقته. فقد لا ترغب في محادثتي. قد تقول مثلًا: آسفة، ربما كنت الفتاة المثالية تمامًا لك، لكنك لست الفتى المثالي تمامًا لي. قد يحدث ذلك. وإذا وجدت نفسي في موقف كذلك، فسأنهار تمامًا على الأرجح. لن أتعافى مطلقًا من الصدمة، فعمري اثنان وثلاثون عامًا، وأمثالي لا يتعافون من صدمة كهذه.

نمر بمحل للزهور. تلامس بشرتي نسمة هواء دافئة. الأسفلت رطب، وأشمّ رائحة الورود. لا أستطيع أن أجبر نفسي على محادثتها. ترتدي سُترة بيضاء، وفي يدها اليمين مظروف أبيض متغضن دون أي طابع بريد. إذًا، فقد كتبتْ خطابًا لشخص ما، وربما أمضت الليل كله تكتبه، فهذا ما تشير إليه عيناها الناعستان، ويمكن أن يحتوي المظروف على كل أسرارها.

أخطو بضع خطوات أخرى وألتفت، فتضيع مني في الزحام.

الآن، بالطبع، أعرف تمامًا ما كان ينبغي أن أقوله لها. كنت سألقي عليها خِطابًا طويلًا، لكن مثل هذا الخطاب كان سيصعب عليّ أن ألقيه على النحو الملائم. لم يكن ما يخطر لي من أفكار عمليًا جدًا على الإطلاق.

حسنًا. ربما كنت سأبدأ بـ"كان يا مكان"، وأنهي كلامي بـ"قصة حزينة، أليس كذلك؟".

كان يا مكان، فتى وفتاة. كان عمر الفتى ثمانية عشر عامًا أما الفتاة فكان عمرها ستة عشر عامًا. لم يكن ذا وسامة استثنائية، ولا هي ذات جمال خاص. كانا مجرد فتى عادي وحيد وفتاة عادية وحيدة، ككل الآخرين. ولكنهما آمنا بإخلاص أنه في مكان ما من العالم يعيش الفتى المثالي تمامًا والفتاة المثالية تمامًا لهما. أجل، كانا يؤمنان بمعجزة ما. وقد تحققت تلك المعجزة بالفعل.

في يوم ما، تصادف أن مرّا ببعضهما على الناصية.

قال: "هذا رائع. كنت أبحث عنكِ طيلة عمري. وقد لا تصدقي ذلك، لكنكِ الفتاة المثالية تمامًا لي".

فردّت عليه: "وأنت أيضًا الفتى المثالي تمامًا لي، كما تخيلتك تمامًا بكل تفاصيلك. ليس هذا إلا حُلم".

جلسا على كرسي في حديقة، وتعانقت أيديهما، وحكى كل منهما للآخر حكاياته ساعة بعد أخرى. لم يعد أي منهما وحيدًا بعدها. وجد كل منهما الشخص المثالي له تمامًا. يا له من شيء رائع أن تجد الشخص المثالي لك تمامًا. تلك معجزة، معجزة كونية.

ولكن، بينما يجلسان ويتبادلان الكلام، نبتت بذرة فضية ضئيلة، ضئيلة، في قلبيهما: هل يمكن حقًا أن تتحقق أحلام المرء بهذه السهولة؟

وهكذا، تباعدا، فاتجهَت شرقًا، واتجه غربًا.

لكن الاختبار الذي اتفقا عليه كان لا داعي له إطلاقًا. لم يكن عليهما المرور به أبدًا، لأن كان منهما كان الحبيب المثالي تمامًا للآخر، وكانت معجزة أن يتلاقيا أصلًا. ولكن صِغر سنهما منعهما عن معرفة ذلك. وظلت موجات القدر الباردة اللامبالية تعصف بهما دون رحمة.

وفي شتاء ما، أصيب كل من الفتى والفتاة بإنفلونزا فظيعة، وبعد أسابيع بين الحياة والموت، فقدا كل ذكرى لهما عن سنواتهما السابقة. وعندما أفاقا، كان رأساهما فارغين مثلما كانت حصّالة نقود دي. إتش. لورانس في طفولته *.

لكنهما كانا شابين ذكيين وعنيدين، ومكنّهما بذلهما قصارى جهدهما من استعادة المعارف والأحاسيس التي تؤهلهما للعودة مرة أخرى إلى كونهما فردين كاملَي الأهلية في المجتمع. وبفضل العناية الإلهية، صارا مواطنين ملتزمين بحق، يعرفان طريقة الانتقال من قطار مترو إلى آخر، ويستطيعان تمامًا إرسال خطابات بعلم الوصول عن طريق مكتب البريد. وقد أحبّا فعلًا مرة أخرى، وفي بعض الأحيان، كان هذا حبًا لا يقل عن 75 % أو حتى 85 %.

مر الزمن بسرعة صادمة، فصار عمر الفتى اثنين وثلاثين، وصارت الفتاة في الثلاثين.

وفي أحد صباحات أبريل الجميلة، بحثًا عن كوب من القهوة يبدأ به الفتى يومه، كان يمشي من الشرق إلى الغرب، بينما كانت الفتاة التي تنتوي إرسال خطاب بعلم الوصول تمشي من الشرق إلى الغرب، ولكن كان كلاهما يقطع ذلك الشارع الضيّق في حي هاروجوكو في طوكيو. ومرا ببعضهما البعض في منتصف الشارع تمامًا. لمعت لمحة باهتة من ذكرياتهما الضائعة للحظة وجيزة للغاية في قلبيهما. شعر كل منهما بدمدمة في صدره. وعرفا:

تلك هي الفتاة المثالية تمامًا لي.

ذلك هو الفتى المثالي تمامًا لي.

لكن وهج ذكرياتهما كان أضعف من اللازم، ولم تعد أفكارهما بذلك الوضوح الذي كانت عليه قبل أربعة عشر عامًا. ودون كلام، مرّا ببعضهما البعض، ليختفيا في الزحام، للأبد.

قصة حزينة، أليس كذلك؟

أجل، هي كذلك، وهذا ما كان عليك أن تقوله لها.


هامش

* إشارة إلى فقر لورانس في طفولته.