05-أكتوبر-2022
يوسف عبدلكي

لوحة لـ يوسف عبدلكي/ سوريا

ثمة محاكم تفتيش منصوبة على الدوام لأولئك الذين يغيرون رأيهم.

"طه حسين كان لا يؤمن بالعروبة ثم صار فجأة من دعاتها؛ العقاد كان وفديًا ثم غدا عدوًا للوفد.. كان يساريًا قبل أن يتحول إلى اليمين المحافظ؛ توفيق الحكيم أيد عبد الناصر ثم انقلب على إرثه وتجربته بعد وفاته؛ جورج طرابيشي كان قوميًا يساريًا ثم غير رأيه؛ حازم صاغية آمن بالثورة الإسلامية وصفّق لها قبل أن يغدو واحدًا من أشد منتقديها..".

قال شيوعي عتيق ذات مرة: "لن أغير رأيي بالتجربة الشيوعية لمجرد أن المعسكر الشيوعي قد انهار"!. انتبهوا من فضلكم لـ "لمجرد" هذه!!

 

لائحة الاتهامات قاسية لا ترحم: "الافتقار للإيمان الصادق؛ عدم القدرة على الصمود والثبات؛ تغيير الأفكار مع تغير اتجاه الريح؛ اللهاث وراء كل موضة أو نغمة سائدة..".

والعقوبة قاسية بالتالي: الرجم بكل البذاءات.. والأهم: نزع المصداقية عن كل ما قال هؤلاء أو كتبوا.. عن كل ما يقولون أو يكتبون.

جون ماينارد كينز واجه اتهامًا مشابهًا من أحدهم، فأجابه: "إنما تتغير الحقائق فأغير رأيي فماذا تفعل أنت يا سيدي في هذه الحالة؟".

إذا كان السيد الذي يخاطبه كينز يشبه أولئك "المبدئيين" عندنا، فإننا نستطيع التكهن بما يفعل: تتغير الدنيا ولا يغير ما في رأسه.. يشمر عن ساعديه ليقسر حقائق العالم على الانسجام مع أفكاره، ذلك أنه غير مستعد بالمرة لأن يغير أفكاره لتنسجم مع حقائق العالم.

قال شيوعي عتيق ذات مرة: "لن أغير رأيي بالتجربة الشيوعية لمجرد أن المعسكر الشيوعي قد انهار"!. انتبهوا من فضلكم لـ "لمجرد" هذه!!

ولكن إذا أردنا الاستعاضة عن مفردة "مبدئية" بأخرى أكثر دقة، فأين سنعثر على مفردة أنسب من هذه: "حماقة"؟!

أسوأ المهن

في كتابه أسوأ المهن في التاريخ، يسرد توني روبنسون قصة ألفي عام من العمالة البائسة، معددًا أكثر المهن شقاء وخطورة وإثارة للتقزز.

كثير من هذه المهن عرف التطور فتحول إلى أشكال جديدة أقل بؤسًا، ومهن أخرى انقرضت، وصار مجرد ذكر أسمائها أمرًا يدعو للاستهجان: جامع القيء، حامل درع الفارس، رجل ملح البارود، جامع بيض الغلموت، ناسخ الأوامر الملكية، ساك العملة..

كان هذا زمنًا مضى وانقضى، فماذا عن اليوم؟ هل ما زلنا نملك مهنًا تندرج في باب الأسوأ؟

مثلًا: مهنة الجندي المحترف لا تزال شاقة ومحفوفة بالخطر؛ مهنة عامل المنجم لا تزال، كذلك، سيئة رغم أنها باتت أقل سوءًا مما كانت عليه قبل عقود.. ولكن فكروا بالموظف المكلف بإنزال القاطع في بلد يقنن الكهرباء.. فكروا، على الأخص، بصحفي عربي مكلف بـ "النقد البناء"!

ملامح موجزة

إدواردو غاليانو "صياد القصص":

"يمكن لي أن أكون بطلًا دوليًا للساهين، لو وجدت هذه البطولة: كثيرًا ما أخطئ في اليوم، وفي الساعة، وفي المكان، أجد صعوبة في التمييز بين الليل والنهار، وأتغيب عن المواعيد لأنني أظل نائمًا.

ولادتي أكدت أن الرب غير معصوم عن الخطأ؛ ولكنني لا أخطئ دومًا مع ذلك حين يكون علي أن أختار من أحبهم من الناس وما أؤمن به من أفكار.

أمقت النائحين، أكره الشاكين، أقدر من يعرفون كيف يتحملون بصمت ضربات الزمن السيئ، ولحسن الحظ أنني لا أفتقد على الدوام صديقًا يقول لي واصل الكتابة وحسب، وأن التقدم في العمر يساعد، وأن الصلع يحدث بسبب التفكير كثيرًا وأنه مرض مهني.

الكتابة تتعب، ولكنها تواسي".