30-سبتمبر-2022
لوحة لـ علي آل تاجر/ العراق

لوحة لـ علي آل تاجر/ العراق

علاقة الرجل العراقي بجسده الوحيد

يُخيَّل لي أن العراقي له أكثر من جسد، ينجو بأعجوبة مرة تلو الأخرى فيبدو كمن يستبدل جلده. يفقد الكثير من العراقيين بعض أجسادهم في غرف التعذيب، وآخرين يفقدونها في الأسر، وثمة من يخسرونها في الوحدة أو في الندم. لقد كان بإمكاني أن أكون لاعب كرة قدم أو مصارعًا أو عداءً، هذا ما يقوله أبٌ عراقي وحيد وهو يشاهد مباراة عابرة، أو يتابع تقريرًا متحسسًا وزنه الزائد من الجهات التي تُفقِده الأمل.

علاقة العراقيّ بيديه مثل علاقته بعينيه تمامًا. إنها أشياء نفتقدها من أجل استرداد دموعنا فحسب

 

للعراقي جسد وحيد لكنه ليس جسدًا واحدًا، وثمة أسطورة يمكن أن أكون أنا مخترعها، إلا أنها جذابة كما لو أنني اقتطعها من أحد الكتب الغابرة، تقول إن الآلهة وقت بدأت بخلق البلدان وصنع هوية لكل بلد سألت العراق أولًا أن يختار بين جسدين بعين واحدة، أو جسد بعينين فتوجب عليه أن يفكر ثم يقرر بعدئذ:

العين مهمة شاقة لكن الجسد يمكن أن يُخترع.

لهذا يبدو العراقيون حزانى، بكاءُ مَن تنقصه إحدى عينيه.

 

علاقة العراقي بفمه الوحيد

قدر المرء بلسانه، المرء مخبوء في مكانٍ ما، لكن الألسنة تجري دون وجهة. كلمات تنطلق كأهازيج مفرغة لا كصلوات. ومنذ البداية قسّمَ العراقي واجبات فمه بالتساوي: أوقات للشتيمة وأخرى للتوسل بالإله. أوقات لمديح الكواكب أو من يماثلها من الجلاوزة وأخرى للمغازلة. الفنون تتعدد والألسنة أيضًا.

أما العراقي الشاعر فأيّ قدر ينتظره إذ تضيق الفسحة بين الواجبات المقررة، وبهذا يبدو الشعر ليس سوى إعادة الكلمات إلى الفم.

 

علاقة العراقي بيديه

الحكاية هنا تُختزل ببساطة؛ علاقة العراقيّ بيديه مثل علاقته بعينيه تمامًا. إنها أشياء نفتقدها من أجل استرداد دموعنا فحسب.

علاقة العراقي ببلده الوحيد

ليس للعراقي بلد واحد، إنما بلاد لا تحصى غير تلك التي يهاجر نحوها بالطبع، وبتحليل الأمر من وجهة تاريخية فثمة عراق عثماني، وآخر ملكي، وثالث جمهوري، ثم يتبعه عراق بوليسي، فيجيء العراق الجديد خاليًا من أية لمحة عراقية مألوفة، مع أنه جامع لكل تلك التصدعات العريقة ولا يقف السر عند التاريخ، هناك ما يتجاوز التاريخ دائمًا.

"البلاد التي تزورها ليس بلادك مثلها مثل البلاد التي جئت منها". هذا ما ينبغي أن يكتب في أحشاء جواز السفر العراقي.

وعندما يسأل ما هي بلادي إذًا؟

فالجواب أشد سخرية مثل أجوبة الفلاسفة القدامى: من يسأل عن بلاده أكثر ممن يخسرها مرة كل عشر سنوات، ومرة أخرى إلى الأبد؟!

 

علاقة العراقي بموته

من يموت من أجل العراقي؟ أي جسد ينبغي التضحية به: الجسد الذي ورثه من أسلافه أم الجسد الذي يدخره لصغاره؟ تلك هي القضية.

والمؤسف أننا لن نجد في مملكة الحيوانات الوطنية شعبًا يبلط شوارعه الضيقة بعظام الموتى.

ليس للعراقي بلد واحد، إنما بلاد لا تحصى غير تلك التي يهاجر نحوها بالطبع، وبتحليل الأمر من وجهة تاريخية فثمة عراق عثماني، وآخر ملكي، وثالث جمهوري، ثم يتبعه عراق بوليسي، فيجيء العراق الجديد

علاقة العراقي بهامشه الأخير

إذا كان المتن حياة كاملة للمرء فإن الهامش شاهدة قبره؛ "طر إن استطعت في الهواء رويدًا". تلك شاهدة قبر لم تكتب على قبرٍ ما ولعلها تعني ضمن ما تعنيه أنّ المعري الأعمى أشد إحساسًا من عباس بن فرناس.

...

هذه هي مدارات الرجل العراقي؛ الرجل بوصفه فردًا مضطهدًا وموغلًا في الحزن. تأتيه هواجسه لا لتخلع عنه إنما لتبقى وتستقر.