17-نوفمبر-2015

صورة مصغرة لبرج إيفل في أحد مواقع الهجمات (Getty)

بعد الهجمات الإرهابية المروعة التي حدثت مؤخرًا في باريس، قام عدد كبير من السوريين في فرنسا (وأحيانًا خارج فرنسا) بإعلان تضامنهم مع ضحايا هذه الهجمات، وذلك بأن التحفوا العلم الفرنسي، ووضعوه بروفايلًا لهم على الفيسبوك.

كانت فرنسا، في ظل حكومة القتل والنهب السورية، هي الوطن المشتهى، وطن النور والحريات والكرامة البشرية

وكما يجري عادة بين السوريين الذين تعرفوا خلال السنوات الأخيرة، بكلفة قل نظيرها في التاريخ، على حرية الرأي والرأي الآخر والنقاشات الحادة، انقسموا بين مؤيد ومعارض ليس على تغيير البروفايل فقط، بل على مبدأ هذا التضامن! ليس مناقشة ذلك من مهام هذا المقال، بل التقدم خطوة أخرى لمحاولة البحث عن المعنى الخفي الذي ينطوي عليه ذلك. تمثل فرنسا في الذاكرة السورية علامتين شديدتي التناقض والافتراق. فمن جهة انتدبت فرنسا لـ(تعليم) السوريين "فن الحياة المتحضرة" لمدة خمس وعشرين عامًا، قامت خلالها ثورة السوريين الكبرى، ونشبت المعركة تلو المعركة لإرغامها على مغادرة البلد. وحين حدث ذلك في السابع عشر من نيسان/أبريل 1946 عمت الأفراح الشارع السوري. ويعتبر السوريون أن ذلك التاريخ يوم وطني جليل.

لكن الحكومات الوطنية المتعاقبة، بشكل خاص حكومة الحركة التصحيحية، ولشدة ما أهانت الشعب السوري وأذلته، ولشدة ما سدت الأفق في وجهه، كان أن كف عن النظر إلى فرنسا بوصفها قوة (احتلال) ونظر إليها من الزاوية الأخرى التي تمثلها في ذاكرته وهي أنها حاملة وناشرة قيم الحرية والعدالة والمساواة والحق... وانتشرت في الأجواء العبارة الخالدة: "باريس مربط خيلنا".

وكان أن حدثت الواقعة الكبرى التي جعلت قسمًا من السوريين يهربون من وطنهم الذي حرروه ذات يوم من هذا المستعمِر إلى بلد المستعمِر ذاته "ليربطوا خيلهم في باريس". كانت فرنسا، في ظل حكومة القتل والنهب السورية، هي الوطن المشتهى، وطن النور والحريات والكرامة البشرية... ومنذ بدء الثورة السورية لم تخيب فرنسا الأمل وانحازت إلى تطلعات الناس وحركتهم، وبقي موقفها ثابتًا من النظام على الرغم من الأرجوحة العالمية التي ما انفكت عن الاهتزاز والتأرجح. ربما لهذا السبب نالت فرنسا القسط الأوفر من الهجمات الإرهابية.

تضامن السوريون (بعضهم، أغلبهم) مع الفاجعة على مستويين: داخل سوريا وخارجها. في الداخل، ومن تحت البراميل والبيوت المهدمة وعلى مرمى الصواريخ، أشعل بعضهم شمعة، ورسم بعضهم برج إيفل كرمز صارخ، ووقفوا في العراء ليقولوا للباريسيين: نحن معكم. وبعضهم رفع لافتات مكتوب عليها عبارات المواساة والتضامن، وثمة من حدد القاتل: من يقتلنا منذ خمس سنوات هو الذي يقتلكم الآن. أما تعبيرات من في الخارج (بعضهم، أغلبهم) فكانت رفع العلم الفرنسي، أقله على البروفايلات في الفيسبوك.

بين التعبيرين يكمن جزء من القصة السورية الجديدة. في الداخل يعيشون تفاصيل البلد. يعيشونها، لا يسمعونها في الأخبار ولا يقرؤونها في الصحف... ثمة وطن ينهار أمامهم وعلى رؤوسهم، وثمن من يقاتل لاسترداده وبنائه من جديد. الوطن بالنسبة إليهم معاش، وواضح، وهذا هو! لا تتنازعهم الرغبة بوطن هم فيه وبوطن آخر بعيد عنهم، هنا ولدنا وهنا سنموت.

في الخارج يتنازع الناس أمران: وطنهم الذي يرونه غير قابل للعيش خلال فترة زمنية طويلة، و(وطن) هم الآن فيه، يلتزمون أنظمته وقوانينه ويطّلعون على ثقافته. وهم، لاعتبارات الحياة الآمنة والحرة والكريمة (إلى حد ما)، سيعملون كل أمر متاح للبقاء فيه كوطن بديل. ومن الأمور المتاحة: شدة التعلق بمظاهر الانتماء، بل التطرف في ذلك، وشدة الشعور بالتبرّؤ مما يمكن أن يوصموا به حتى قبل توجيه التهمة!

في سوريا حدث شرخ عميق وخطير في مفهوم "الهوية السورية". لم نعد نستطيع، كسوريين، التكلم عنا جميعًا

في سوريا حدث شرخ عميق وخطير في مفهوم "الهوية السورية". لم نعد نستطيع، كسوريين، التكلم عنا جميعًا، ولم يعد بوسعنا أن ننتمي كلنا إلى هذه "الهوية" الممزقة. ثمة سوريون وسوريون يقفون على النقيض، ليس كمواقف فقط، بل كوجود! كيف يمكن أن يتعايش هؤلاء السوريون مع أولئك: القاتل ومؤيديه، مع المقتول ومؤيدي قضيته؟ أيضًا، كيف يمكن أن يعيش السوري الذي يريد الانعتاق مما يكبله في ظل بعض الطروحات هنا وهناك عن سوريا ذات حكم إسلامي وقوانين إسلامية تقطع اليد وترجم! ثمة رايات كثيرة الآن في سورية، وكل راية تريد وتسعى لهوية مختلفة عن الراية الأخرى. فأية راية ترمز إلى سوريا المتخيلة؟ 

هنا شعور بـ "الوطنية" السورية مختلف بين من اختار وطنًا بديلًا، وبين من لم يفعل. ليس من شأن ذلك التشكك إزاء/ أو التقليل من "وطنية" البعض، لكن من شأنه أن يثير نوازع الانتماء، وهذه تشير إلى اضطراب وخلل طارئين في "الوطنية" السورية. داخل سوريا لم يرفع أحد علم فرنسا، أعلنوا تضامنهم كآخرين لهم شخصيتهم المستقلة والواضحة، كآخرين يتعرضون يوميًا لما تعرض له الفرنسيون ذلك اليوم. في الخارج التحفوا العلم الفرنسي، أعلنوا تضامنهم كممزقين بين وطنين: واحد ينأى، وآخر يحاولون الاقتراب منه على نحو حثيث. وهذا يقع، كما أعتقد، ضمن هذا الشعور (الواقعي حقيقة) بتمزق "الهوية" السورية، وتعدد راياتها، وتعدد وجهات النظر -النظرية والعملية- في سوريا المتخيلة. 

في كل الحالات، هذه بعض أمراض النخب السياسية والثقافية. هذه الأمراض، غالبًا، لا تصيب باقي أفراد الشعب.

اقرأ/ي أيضًا:

نحن وفرنسا.. فواتير أخرى بانتظار الدفع

"داعش" ليس مشكلة إسلامية - إسلامية