25-أبريل-2016

محمد ربيع (خير الدين مبارك)

قبل أن تعرج إلى رواية "عطارد" (دار التنوير) لكاتبها الروائي المصري محمد ربيع، ستتوقف قليلًا أمام محاولته هندسة القتل، وتحليله، وتبريره، وخلق منطق تمرّ الجثث عليه كـ"فلتر" يضمن السلام النفسي للقاتل، أنت لا تقتل لأن الروح مستباحة، ولا تريق الدماء لأنها حلال، أنت تؤدي مهمتك، ولا تتوقف عنها، ولا تتألم لما يصيب الناس فهو العدل، وأنت أداة الرحمة، أنت نائب عزرائيل، الذي يكتم الأنفاس، ويخطف النفوس، ويرتب لحوادث ومهالك ومجازر لكي يقبض الروح بسلاسة وحبكة درامية، وفي النهاية، يظلّ ملاكًا. 

أنت لا تقتل لأن الروح مستباحة، ولا تريق الدماء لأنها حلال، أنت تؤدي مهمتك، ولا تتوقف عنها

وفي الطريق إلى العدل والحق والأمل ومنح المتعبين والمعذبين فرصة للراحة الأبدية، لا تعدّ الجثث المقتولة والمشنوقة في الشوارع، فالقتلة لديهم هدف نبيل، وهو خدمة الضحايا، ومنحهم مصيرًا أفضل. وهل الموت أفضل؟ ستقول إن الموت نهاية لكل شيء. أحمد عطارد له رأي آخر: "لم أعلم أبدًا لم كنت واثقًا إلى هذا الحد أني سأقتلهم قريبًا، وأني سوف أغيّر مصيرهم إلى مصير أفضل ولو كان موتًا. ثم رأيت أني سأقتل الكثيرين، وأن عددًا هائلًا من الناس سيُقتلون لكني لن أشترك في قتلهم، ورأيت أن الناس ستقتل أبناءها وستأكل لحومهم، ورأيت أن الرجل القاعد يأكل الطعام ويتفرّج على التلفزيون قد حطم آخر الأختام وأطلق العنان لكل ما سيحدث".

اقرأ/ي أيضا: حارس الموتى.. لو لم تحدث الحرب

تدور أحداث الرواية في القاهرة عام 2025، بعد احتلال مصر بقليل، ويمكن أن تقول: "بعد الثورة، حين تحول كل شيء إلى كابوس وجحيم، وانقطع الأمل"، لكن الأمل بقى منتعشًا داخل قلوب خلية نشطة من بقايا الشرطة التي انسحبت في جمعة الغضب، وهربت مهزومة من جيوش الشعب الجرارة التي كانت ستدهسها لولا أنها وافقت على الهزيمة، وهربت. لكن الإيمان بالعودة أجبرها على العودة فعلًا لرد اعتبار الداخلية بعد "نكبة 2011"، والعودة هذه المرة كانت أمام جيش احتلال يدعي "القوات المسلحة لجمهورية فرسان مالطا".

الشرطة الآن، في 2025، متورطة في عمل وطني، وهو مقاومة الاحتلال، إنما السبب ليس وطنيًا صرفًا، لكنه ببساطة متعلق برد شرف الداخلية.

ضابط الشرطة أحمد عطارد، بطل الرواية، قناص مجموعة البرج، خلية مقاومة الاحتلال الأنشط، التي تتخذ من برج القاهرة مركزًا لمراقبة أهدافها لقنصهم، واغتيالهم، والقيام بعمليات استشهادية في الجانب المحتل من العاصمة، شرق النيل، فالجيزة لم تكن محتلة، واتخذت مقرًا آمنًا لتجهيز عمليات القتل والطعن وضرب وشنق ضباط الاحتلال، وتتعرض مبانيها للقصف من جيش العدو، الذي اتخذ الزمالك معسكرًا، انطلقت منه لهدم الأوبرا وجامعة الدول العربية، وماسبيرو، والبنوك، والفنادق، والوزارات، وتشويه تمثال إبراهيم باشا – في وسط البلد – بعد سرقة رأسه ونَشر ذراعه بالمنشار، وبتر أجزاء من الحصان، الذي يركبه، وقطع البث عن التلفزيون، اللهم إلا الراديو المحلي الذي كانت موجاته تتردّد بانتظام، وأحيانًا لا تقول: "هنا القاهرة". وفي الطريق إلى الاحتلال، ألغى المحتل الدستور المصري، وبدأ العمل بدستور جمهورية فرسان مالطة، وتعيين بول بيير جينفيف حاكمًا عسكريًا.  

في روايته "عطارد"، يرسم الكاتب محمد ربيع صورة للقاهرة وقد وقعت تحت الاحتلال

يرسم ربيع صورة القاهرة المحتلة: الناس ينتقلون في أنفاق بين ميدان التحرير ومنطقة الأوبرا في أنفاق، بعد اعتقال كل المارة على كوبري قصر النيل، ويتوقفون عن تدخين السجائر والحشيش والسيجار لسوء الأحوال الاقتصادية، ويدمنون تدخين مخدر "الكربون" المصنع من أشلاء الحشرات، ويرتدون "ماسكات" لوجوه شخصيات شهيرة، ولأن العاصمة بلا شبكة محمول، تتبادل المقاومة الرسائل المشفرة بأجهزة غريبة تشبه "الصراصير الطائرة".

اقرأ/ي أيضا: نوميديا.. سرديات من المخيال الأمازيغي

أحمد عطارد ليس ضابط شرطة، إنما فيلسوف، وصاحب تطبيق نظرية القتل الرحيم على الأرض. الآن، ما أقسى أن تكون مصريًا. ما أبشع مشاهد القتل المجاني و"الخوزقة" في الطرق والأقسام وتحت الكباري. ما أفجع أن تقرأ رواية من آخر مشهد. 

النهاية، حسب وصف الضابط عطارد: "الجحيم ينتهي رويدًا رويدًا. اختفى كل صوت من حولي ما عدا صوت الرياح، كانت تنطلق وتحرك أطراف ملابسي ثم هدأت إلى أن انقطعت تمامًا وغاب صوتها عن أذني، ولم أعد أسمع سوى نبضات قلبي وسط الصمت المحيط بي، لا شيء حولي الآن إلا مباني الجحيم وشوارعه وطرقه ولافتات دكاكينه، لا أثر للبشر أبدًا. ثم تباطأت نبضات قلبي كثيرًا، وخفّ صوتها إلى أن غاب. ولم أعد أسمع شيئًا. ثم إني كنت شرطيًا في الدنيا ورأيت أني كنت شرطيًا في حيوات متعددة في جُحُم كثيرة، ومرَّت ملايين الصور، رأيت فيها كل شيء؛ كيف كنت أعذب الناس وأُعذَّب معهم، ورأيت أن الجحيم دائم لا ينقطع، أزليٌّ أبديّ، وأن كل شيء سيفنى في النهاية ولن يتبقى سواه. وعلمني أني خالد في الجحيم، وأنني ابن الجحيم".

تسير رواية "عطارد" في خطين زمنيين، أولهما عام 455 هـ، عن صخر الخزرجي الذي مات ثم بعث من جديد، وقال للناس إنهم يعيشون في الجحيم، وما الدنيا إلا جحيم دائم وعذاب لن يزول أبدًا: "هذا جحيمكم. لا يزال طويلاً. سنوات كثيرة قادمة أكثر هولاً مما رأيتم. وينتهي جحيم ليتلوه جحيم كما سبقه جحيم. وتمر عليكم بعدي سبع سنوات مظلمات يموت فيها كل شيء وأنتم تنظرون. وثم تجوعون فتأكلون جيف الكلاب. ثم تموتون فتأكلون جثامينكم. ثم تيأسون فتأكلون أبناءكم. ويوضع الأمل في قلوبكم. ولا أمل. فالأمل عذابكم".

اقرأ/ي أيضا: سماء قريبة من بيتنا.. مرايا الأمكنة والشتات

يستطيع عطارد أن يفهم ما سيجري من الإشارات، وإشارة الخزرجي تحديدًا تحمل ملخص الرواية بالكامل، سيأكل الناس جيف الكلاب ثم يأكلون بعضهم، وتمر السبع العجاف، ويموت كل شيء، ويأكلون أبناءهم، ليس لأن العالم يتجه نحو القسوة، إنما لأن التاريخ يعيد نفسه، ولسبب آخر، إنه لا أمل، لقد تم شنق الأمل بأمعاء آخر فرصة في النجاة، فقرر الضابط أن يقتل، ويستمر القتل، وينشر دعوته لقتل الناس لتخليصهم من الجحيم.

هل تعتقد السلطة أنها بمن قتلت تنقذ البشرية من العذاب؟ هل تمنحهم تأشيرة مرور إلى الجنة وتنتظر الشكر لا المحاكمة؟

"في الجحيم، مهمتي الأولى إخراج الناس من الجحيم بقتلهم"، كضابط شرطة يرى عطارد أن دوره إخراج الناس من الجحيم، والعلاج الآن في شيء واحد هو قتله لأكبر كم من البشر، هذه مساعدة غير مدفوعة الأجر لإنقاذهم من الدنيا.

من وجهة نظر عطارد إن وقوع قتلى على يد أفراد الشرطة توصيلة للنعيم الأبدي، وإشاعة الفوضى والقتل العشوائي وتوجيه الرصاص إلى الرؤوس مباشرة لا الأرجل تضحية نبيلة لإخراج المعذبين من عذابهم، فلن يخرجوا سالمين من الحياة، الجحيم في رواية أخرى، إلا بهذه الطريقة، فالموتى لا يعذبون، العذاب الأكبر لمن رأى، لمن شاهد، لمن فقد وبكى، وسيعيش بعذاب مشهد القتل والذكريات. العذاب لمن اقتحم المشهد وجلس بين الجثث، وهاله ما رأى!

السؤال الأدق.. هل تعتقد السلطة أنها بمن قتلت تنقذ البشرية من العذاب؟ هل تمنحهم تأشيرة مرور إلى الجنة وتنتظر الشكر لا المحاكمة؟ "ما تلا ذلك كان عملًا بطوليًا من النيابة، نعم استخدمنا الرصاص الحيّ لكن أحدًا لم يتحرك ليُدين فردًا واحدًا منا، في ذلك اليوم فعلنا كل ما نريد، ونجحنا في تطويع الناس إلى الأبد. وبعد أيلول/سبتمبر 2019 تأكدت أن أحدنا لن يحاكم أبدًا إذا قتل مواطنًا في أحداث شغب"، هكذا يتحدث الضابط أحمد عطارد وزملاؤه.

ويشعر إنه إذا توقف عن القتل سيطارده صوت في منامه يؤنبه ويحول حياته إلى كابوس، قائلًا: "أنت تكتم العلم لأن عليك أن تكتمه، لا يعلم أحد ما يحدث ويقوله أبدا، لكنك توقفت عن أداء مهمتك ويجب عليك أن تعود، لا تتألم لما يصيب الناس فهو عدل، وأنت أداة الرحمة. لم تركت سلاحك وكففت عن القتل؟".

اقرأ/ي أيضًا:

محمد ربيع.. ما حدث في يناير انتهى

مصائر.. رواية بأجوبة مستعملة

مديح لنساء العائلة.. العشيرة تدخل الحداثة