01-سبتمبر-2015

"الهوية المغربية جسد" (فيسبوك)

في "شجر مرّ"، المسرحية التي تناولت الاختفاء القسري لمعارضي النظام المغربي في أماكن مجهولة، خلال "سنوات الرصاص"؛ كان هنالك جسد شابّ وراء جدار شفاف ومضبّب، يزواج كوريغرافيًا بين مونولوغات السجين الصامتة ومعاناته الجسدية، ببعد جمالي- بصري أضاف لمسةً شعرية للمسرحية. تلك الخفة هي كلمة عثمان سلّامي السرية.

يشهد المغرب تأسيسًا حديثًا للرقص التعبيري المعاصر ممزوجًا برقص فلكلوري

كانت رقصة عثمان سلّامي نصًّا موازيًا لشعر وأغاني تلك المسرحية، حيث استطاع جسده أن يجعل الثانويّ مركزيًا. لكنّ ذلك الجسد كتب نفسه من قبل في تجارب عديدة، أبرزها مشروعه الفني الخاص "جسدي"، الذي يدعو له كل عامين فنانين يشتغلون على ثيمات مشتركة، يقاربون فيها القضايا المجتمعية والفردية عبر توظيف المشاعر والأحاسيس لنقل خطاب حسي مباشر يتجاوز النص وكلّ ما هو لغويّ.

قبل أربع سنوات ونيّف توّجه عثمان سلامي إلى "المعهد العالي للفن المسرحي" في الرباط، لدراسة التمثيل مبدئيًا، ثم الانخراط في الإخراج المسرحي الذي كان يرغب فيه. لكنه وجد أن النظام التعليمي لا يسمح له بتبديل تخصصه، وعن هذا يقول لـ"الترا صوت": "اكتشفت بعد السنة الأولى أن تحويل التخصص غير مسموح به البتة، ورغم أنني لم أفكر يومًا بالتمثيل إلا أنني اضطررت لإتمام دراسته".

أعوام مرّت وعثمان سلامي يدرس التمثيل، والمقرّرات والمحاضرون من يحدد التخصصات، ما يجعل الطلبة أسرى خيارات مسبقة تحدّد مستقبلهم المهني. يقول سلامي: "يتحول الأمر إلى مشكلة بعد التخرج، يبقى فيها الطالب فاقدًا للتخصص وبدون تأطير معين".

واصل عثمان سلامي تعليمه واكتشافه لاهتماماته المتشعبة التي طالت الإخراج، والكوريغراف، ومسرح الشارع الذي أعدّ حوله مشروع التخرج الذي كان أول بحث أكاديمي حول هذا المسرح في المعهد منذ سنة 1986. وجد نفسه في مسرح الشارع، لأنه التطبيق الحقيقي لفكرة المسرح من حيث إنه يتيح تقييم مجتمعاتنا بطريقة مباشرة وفعالة.

يمكن القول إن الفنان الشاب عثمان سلامي أجاد في تقديم مسرح الشارع، لا سيما الكوميدي منه، بطريقة تعيد أداء الظواهر الاجتماعية بأسلوب واقعي. وبفعل عوامل عديدة، ارتأى سلّامي أن يؤسس فرقة "إنكور" لإحياء مسرح الشارع، عن هذا يقول عثمان سلامي: "فكرت بجدية في هذا المسرح عندما كان صدق أحاسيس الجمهور لا يخيبني. كما أنني أتحمس لعلاقتي مع الجمهور الذي أشعر أنه يريد أن يكون فاعلًا، أو ممثلًا".

كان مسرح الشارع في أوروبا حليفًا ونصيرًا للطبقات العاملة المهشمة

ويضيف عثمان سلامي، "ما يحققه مسرح الشارع لا يحققه أي مسرح آخر داخل قاعة مغلقة. كان فن (الحلقة) في ثقافتنا المغربية مصدرًا للقيم والتربية والخيال، خاصة عندما يحكي حكايات كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة.. تلك الثقافة الشفاهية جعلت الناس يتبعونها ويصغون إليها. بالمقابل، كان مسرح الشارع في أوروبا حليفًا ونصيرًا للطبقات العاملة المهشمة. فقد كان العمال يقومون بارتجال المشاهد ليعبروا عنها في الفضاءات العامة ويخاطبوا فيها المواطنين. لذا بات ضروريًا خلق مسرح يشخّص هموم الشارع ويعايشها فكريًا وحدثيًا وعاطفيًا، بكل تلقائية، ويقدم دراما ذات حقائق إنسانية، شبيهة بتلك التي يعيشها عمال النظافة وسائقي التكسيات". 

التحدي أمام سلامي كبير، خاصة بما يتعلق بالجانب المادي، إلا أنه وجد أن الإبداع والبحث عن الذات وتسديد النفقات اليومية أمور يتكفل فيها مسرح الشارع، في حين أن المسرح والرقص المعاصر لا يقفان على ربح. يقول "المسرح ليس وسيلة لدرّ الدخل. كثير من ممثلي الخشبة يضطرون للعمل في أعمال تلفزيونية لتغطية مصاريفهم، ويتركون المسرح لأجل ذلك".

تجاوز عثمان سلّامي ما هو نصي ومكتوب، وبات الأداء الحركي والجسماني لغته البديلة "تجاوزنا اليوم مخاطبة العقل إلى مخاطبة المشاعر من خلال الحركات والجسد. من الضرورة أن يشعر الجمهور، لا أن يفهم، وأن يترك المسرح وهو مشبع بكتلة من المشاعر".

يعتبر عثمان سلامي أن الذكاء الجسدي هو الأهم، بل إنه ينافس اللياقة أو الليونة والاحتراف، وعليه يقول كخلاصة من حرفته: "كُن سهلًا في التعبير عن مشاعرك من خلال الحركات. الإبهار عبر التقنيات ليس كافيًا البتة". الهُوية حركة وجسد أيضًا، هكذا يراها، وبحسبه: "الهوية المغربية - الأفريقية هي جسد. له حميمية ودفء من نوع خاص، وتواصل لحظي يفرض نفسه بين الراقص والجمهور، بهذا يمكن للرقص المغربي المعاصر أن يحافظ على هويته انطلاقًا من الجسد". 
 
بما أن الجسد في المجتمع العربي ليس ملكية الفرد الخاصة، بل إن المجتمع والسلطة البطريركية والدينية تدخل على خط ملكيته، وتحديد سماته وخصائصه؛ ظلّ عثمان سلّامي يخفي أمر رقصه خوفًا مما قد تمارسه العائلة والمجتمع ضده، وحتى لا يلصق به مُسمّى "شطّاح" (باللهجة المغربية وتعني الراقص) أخفى الأمر حتى حضرت والدته أحد العروض في إحدى المرات وصفقت له بحفاوة.

على الرغم من هشاشة جمهور هذه التجارب (مسرح الشارع والرقص المعاصر)، ومحدودة دعم وزارة الثقافة، وضعف التواصل والإدارة على مستوى الفرق المسرحية، والصعوبات المادية التي تلاحق الفنانين، وحتى الأنظمة التعليمية الصدئة.. إلّا أن هذه العوامل لا تمنع من استنبات حركة مسرحية شبابية مغربية، عمادها الحالمون الذين لا يملكون حلولًا لقضايا مجتمعاتهم بمقدار ما يملكون التعبير الفنّي عنها، يقول سلامي: "كلّنا نعيش الفقر والبطالة ونحلم أن نرى مغربًا جديدًا. صحيح أن أول ما يفعله الفنان هو معالجته للمشاكل من حوله، لكن الصحيح أيضًا أن الميدان المسرحي بات يخزّن ثورة من نوع خاص".