23-أغسطس-2015

متاريس للجيش اللبناني عند أحد مداخل عين الحلوة (Getty)

ما الذي حصل، ماذا جرى لذلك الشاب الذكي الطموح. غرّروا به؟! هل يصدق ما يقولون عنه أم هي مجرد ورطة دُفع إليها. لم يكن عبيدة يومًا شخصًا عاديًا، لطالما عبّر عن نفسه وعن آرائه بجرأة ولباقة. لطالما جمع ما بين الإلتزام الديني والعقلانية. لطالما أبدى احترامًا للرأي الآخر وقبله بصدق دون أي زيف. قبِلنا جميعنا، وبيننا من ينتقد دينه وبيننا ملحدون. ذات يوم أهدى زميلته الإسبانية كتابًا بلغتا عن الإسلام. سررت وقتها الفتاة من هذه اللفتة اللطيفة وابتسمت "أفيوش إشي ملغوم ما تخافي"، قال بلهجته الفلسطينية المحببة.

لم يكن منغلقًا ولا منعزلًا، لا بل على العكس، إنّ انفتاحه هو ما شجع الآخرين على قبوله وقبول التزامه. كيف يكون عُبيدة إرهابيّا؟ عُبيدة زميل كثيرين هنا في صيدا، ورفيق مشاوييرٍ كثيرة داخل المخيم وخارجه. يقولون في الصحف بأنه "إسلامي متشدد". عبيدة متشدد!؟ لأنه ملتزم دينيًا. يحرص على عدم تفويت أي فرض. هذا صحيح. صلاة الجمعة مقدّسة لديه. يفضل الحديث بالفصحى في غالب الأحيان. لكن ما الضير في ذلك؟

الظروف الإنسانية الصعبة التي يعاني منها سكان عين الحلوة تدفع جزءًا منهم إلى التطرف

عبيدة ليس جلادًا. في الفترة الأخيرة تغير عبيدة، وبدا سارحًا مهمومًا على الدوام. قال إنه رمضان شهر الصوم والتعبّد. انتهى شهر الصوم والعبادة، لكنّ تعب عبيدة لم ينتهِ. بالتأكيد، أحداث المخيم في الفترة الأخيرة أقلقته. حاول أصدقاؤه الاطمئنان عليه والسؤال عنه وعن حاله. بدا مجرد شخص متعب للجميع. لا خوف من أن يكون متطرفًا، لم يعتقد أحد أنه متورّط في أية قضية أو ينتمي إلى خلية إرهابية، على الأقل، ليس الآن، ليس بهذه السرعة. نعم ليس بهذه السرعة، لأنّ من يعرف عبيدة يعرف كم هو مؤمن بصدق وزاهد في هذه الحياة. لطالما تخيله أصدقاء له مجاهدًا لكن ليس الآن ليس قبل عشر سنوات، وليس هنا في زواريب المخيّم الضيقة، حيث يعيش الناس بلا حقوق.

لا عتب ولا ملامة على عبيدة. حاولوا تجنيده. عُبيدة ابن المخيم، مخيم عين الحلوة. لن يدن المخيّم عبيدة ولن يصنّفه مع الإرهابيين. من عرف المخيم وتعرّف إلى معنى أن تكون لاجئًا فلسطينيًا في مخيم عين الحلوة بالذات. المخيم الذي لم يخل يومًا من الإثارة والحركة. المخيم الذي لم يرَد له ولا لأهله الخروج من دائرة الضوء. لا يمكن لأبناء المخيم إلا أن يكونوا ضحايا. أي تصنيف آخر يكون مجحفًا بحق إنسانيتهم. عبيدة الذي تطرف ضحية.

ولد أبناء المخيم وعاشوا في مساحة جغرافية ضاقت بهم وبذويهم ومع هذا ليس هناك من فرصة للرحيل. عبيدة واحد منهم. من لم يدخل المخيم لن يدرك حجم الأذى النفسي والمعنوي الذي سببته هذه "المنظومة" لأبنائه. أن تولد لاجئًا، في بلد عنصريوه ينهرون كل "غريب" وينظر أهله إلى الفلسطيني كما لو أنه "بومة" جلبت الخراب، لا يمكن أن يولد أي مشاعر امتنان أو حب لهذا البلد أو لحكامه. أن يتم تفتيشك وأنت داخل إلى الحي الذي تسكن فيه وأنت خارج منه. أن يحتقرك العسكر. أن يعاملوك معاملة المشتبه بهم لمجرد أنك صاحب الهويّة الزرقاء. أن تقف كل يوم أنت ووالدك وأشقاؤك وشقيقاتك في صف طويل على حاجز تشعر بأنه لم يوجد إلّا لإذلالك. كيف لهكذا أوضاع ألّا تولّد الحقد والضغينة والخوف، الخوف من كل شيء. في المخيّم هناك خياران: إما أن تكون "أزعر" "حبحاب" "بلطجي وخلافه، أو تكون إسلاميًا على طريق التشدّد أو تنعزل عن الحياة بما فيها. وإما أن تنجو بحظ يفلق الصخر.

كان لعبيدة أحلام كبقية الشباب. حلم أن يدرس هندسة الاتصالات، ليجد أنه ليس من حقه، ولا حق أي فلسطيني في لبنان أن يكون مهندسًا أو يمارس المهنة. ولمن لا يعرف، فالفلسطيني في لبنان محروم من أبسط حقوقه. يولد لاجئّا وينجب إلى الحياة لاجئين ولاجئات ليموت أيضًا بصفة لاجئ. ليس هناك من طريقة تعطيه الحقوق البشرية البسيطة. ممنوع عليه التملك. سينفجر المخيم بسكانه لكن لا مكان يذهبون إليه. ليست جميع الاختصاصات الدراسية مسموحة لهم. لا يحق لهم العمل في هذه المهنة وتلك. محبوسون في قمقم.  لم يحاكَم عبيدة بعد. لكن كلّما يقال ينذر بمصير سيء جدًا. وفي كلا الحالتين خسرنا عبيدة. إن أدين، سينتهي. وإن كان بريئًا، فقضاء بضعة أسابيع في السجون اللبنانية كفيلة بأن تخلق منه إرهابيًا ــ جهاديًا. ما هي مسألة وقت لكي يخرج وينتقم. لقد قتلوا عبيدة.