20-أغسطس-2015

فرقة ميتالكا في أحد عروضها (Getty)

تشهد المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة انتشارًا ملحوظًا، بين أوساط الشباب والمراهقين، لأنماط سلوكية ومظهرية عدّة يحلو للبعض تسميتها بـ"عبادة الشيطان". نقول "يحلو للبعض" ليس لأنّ ما تسمى عبادة الشيطان غير موجودة في مجتمعاتنا، فهي منتشرة بكثرة كما يظهر على السطح بين الحين والآخر، وإنّما بسبب الخلط والمعلومات المشوهة التي تؤدي بالبعض لإلصاق صفة "عبدة الشياطين" على هذه المجموعة من الشباب أو تلك، بما لذلك من مضاعفات وتأثيرات سلبية، على خلفية حبّهم لأنواع معينة من الموسيقى الغربية أو لطريقتهم المتمايّزة في اللباس والمظهر، وما شابه ذلك من أمور لا تعني بالضرورة أنّ من يمارسها هو من معتنقي عقيدة "عبادة الشيطان". ما يعكس جهلًا في حقيقة تلك "العقيدة"، ينتج عنه ظلمٌ لشبّان ومراهقين لا يمتّون لها بصلة، وربّما لا يقلّون عن سواهم جهلًا بها!

يعود تاريخ الشيطان، وتاريخ عبادته أيضًا، إلى المرحلة التي ظهرت فيها الأديان في حياة البشر

يعود تاريخ الشيطان، وتاريخ عبادته أيضًا، إلى المرحلة التي ظهرت فيها الأديان في حياة البشر. وبرغم الفروق الموجودة في سيناريوهات الديانات وتفسيراتها للعالم، إلاّ أنّه تكاد لا تخلو ديانة قديمة أو حديثة سماويّة أو أرضية من الثنائية الكبرى "الخير مقابل الشرّ". ولكلّ من طرفي الثنائيّة إله يرمز له، يرعاه ويعبّر عنه، وهما في صراع أبدي. تشير إلى ذلك الروايات التاريخية والأساطير التي وصلتنا من الأزمنة الغابرة. في مصر مثلاً كان إله الخير يدعى أوزوريس ويقابله سِت إله الشر. وفي الهند القديمة كان إله الشر يدعى راكشا. أمّا الإنسان فهو الضعيف العاجز، والذي سيحيله عجزه إلى الإيمان بأحدهما، أو كليهما، وعبادته تقرّبًا منه، طمعًا برضاه واتّقاءً لغضبه.

غنيٌّ عن البيان أن الشيطان في ثقافة الديانات التوحيدية الكبرى "اليهودية، المسيحية، الإسلام" هو رمز الغواية ومعصية الإله الخالق ومبعث الشرور والمفاسد والآثام. ومن أسمائه "عزازيل، وإبليس".

والشيطان لغةً هو "روحٌ شرّيرٌ مغوٍ، وكلّ متمرّدٍ فاسد والحية الخبيثة"، وأيضاً "إبليس: رأس الشياطين والمتمرّد. أبلَسَ: سكت لحيرة أو انقطاع حجة" وفق "المعجم الوسيط". وهو "كل عاتٍ متمرد من الإنس والجان والدواب" وأيضاً "أبلَسَ من رحمة الله أي يئس، ومنه سمي إبليس وكان اسمه عزازيل" حسب "مختار الصحاح". 

لا بدّ لكل عبادةٍ من أفكار تبرّرها وطقوس تكرّسها ورموز تدلّ عليها، ولا تخرج "عبادة الشيطان" عن ذلك. بعض ما تقوم عليه من أفكار تتلخّص بأنّ الله ملك السماء، والشيطان ملك الأرض، وهما ندّان متساويان، ويتساجلان النصر والهزيمة، ويتفرد الشيطان بالنصر في العصر الحاضر، والكون محل نزاع بين القوى السفلى والعليا، لذا من الضروري التفاهم مع "الشيطان" واتّباع تعاليمه لدرء شروره. ويعتقد البعض أنّ تمرّد الشيطان وكبرياءه حين رفض السجود لآدم تجعله جديرًا بالعبادة نظرًا لقدرته على تحدّي الخالق. إضافة إلى الاعتقاد بوجود طاقة وقوة خارقة يمنحها الشيطان لأتباعه وممارسي طقوس عبادته، من خلال ممارسة الشعوذة وما يعرف بالسحر الأسود. وهم يقومون بطقوس غريبة منفرة ومقزّزة تبدأ بإدمان المخدّرات ولا تنتهي بقتل الأطفال واستحضار الأرواح، والعبث بالمقابر والجثث، وفي أحيان كثيرة الانتحار.

وعلى مرّ التاريخ ظهرت العديد من الدعوات والحركات التي تروّج لهذه العبادة وتمارس طقوسها الغريبة، ومع كل تطوّر في الحياة البشرية كانت تأخذ أشكالاً أخرى جديدة. وبعد ظهور ألفيس بريسلي الذي يعتبره الكثيرون "رمزًا للتمرّد عن طريق المخدرات والموسيقى" وتطويره لموسيقى "الروك أند رول" في القرن الماضي، والتي تزامنت مع إنتاج وانتشار عقاقير الهلوسة "L S D" في أوساط الشباب، وتطوّر تلك الموسيقى لاحقًا إلى أنواع أكثر سرعة وصخبًا مثل الهارد روك والميتال والهارد ميتال، ظهرت جماعات وفرق تتخذ من الموسيقى غطاءً لدعواتها "الشيطانيّة" عن طريق ما يسمّيه القس الكندي جون بول ريجمبال "اختراق الوعي الإنساني بالموسيقى"، فالأغاني تؤثر بالمستمع من خلال الأذن، ثم العين والعقل الباطن حيث يحتفظ الإنسان بالرسالة التي تحملها الأغنية.

العارفون بالموسيقى الغربية يقولون أنها تُقسم بحسب ضربات الإيقاع في الدقيقة وهي تبدأ بمستوى ما بين 65 ـ 80 ضربة إيقاع في الدقيقة وهذا هو النوع الهادئ. ثمّ ما بين 80 ـ 90 ضربة ويسمى الاستماع الناعم. ثمّ المستوى الراقص عند نقطة تتراوح بين 90 ـ 130 ضربة في الدقيقة. ثم "الهيفي والهارد روك" أو "الميتال" ما بين 130ـ 150 ضربة إيقاع في الدقيقة. ومرحلة الموسيقى السوداء والشيطانية حين يزيد الإيقاع عن هذا.

 مسؤولية المجتمعات والحكومات تجاه المراهقين والشباب أوضح من أن تدبّج لها الشعارات والخطب الرنّانة

والنوع الأخير ظهر في الولايات المتّحدة الأمريكية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ولم يقتصر الخروج عن المألوف على نوع وإيقاع الموسيقى بل شمل ذلك معاني الأغنيات إمعانًا في التمرّد والتميّز، وانتشرت الأغاني التي تشتم الأديان وتلعن الآلهة وتمجّد الجنس والمخدّرات والقتل والموت والجحيم، وبعض تلك الأغاني يتم الاستماع لها بطريقة معكوسة كي تُفهم معانيها.

لكن هذا لا يعني بأي حال أنّ جميع الفرق التي تعزف تلك الأنواع من الموسيقى ومن يستمعون إليهم هم من "عبدة الشيطان". فقد ظهرت في الغرب فرق الكريستيان ميتال المسيحية كردّ يواجه فرق "الستانكس ميتال" أتباع "عبادة الشيطان". فهناك فرق تعزف "الميتال" لا تشتم الأديان بل تهاجم الحروب والحكومات التي تقوم بها، كما تنتقد المظاهر السلبية في الحياة. وقد يفاجأ البعض حين يعلمون أن الفرقة التي تحمل اسم "ميتاليكا" قدّمت ألبومًا غنائيًا في العام 1986 تحارب فيه إدمان المخدّرات. أكثر من ذلك هناك فريق آخر يدعى "سبيلتورا" غنّى لقضية فلسطين في ألبوم صدر عام 1993.

لعلّ في ما سلف معلومات تجعل البعض يعيد النظر في الطريقة التي يصف فيها "الأجيال الجديدة" ويحكم بها على تصرّفاتهم، ولعلّ ذلك "البعض" يكتشف جهله فيعتذر عن إساءة ربّما وجهها يومًا لابنه أو ابنته!

إنّنا ونحن نخوض في هذا الموضوع الإشكالي نجدها مناسبة للتأكيد على خطورة التطرّف لدى الشباب سواء كان هذا التطرّف في ممارسة الشعائر الدينية الإلهيّة أو في نقيضها من قبيل "عبادة الشيطان". لا نقول هنا أنّ المسألتين متماثلتين من حيث السلوك والمظهر، وإنّما جوهر حالة التطرف الذي ينشأ غالبًا عن إحباطات متكرّرة، وأزمة وجودية تعكس أسئلة العقل الباطن، هي في جذرها غالبًا ما تكون واحدة. فيتحوّل الشاب من حيث لا يدري إلى أداة طيّعة في خدمة أهداف أناسٍ مخادعين ينشرون أفكارًا وطقوسًا راح هو ضحيّتها!

إنّ حالة الإحباط واليأس حين تتمكّن من الإنسان، وخصوصًا المراهق أو الشابّ قد تدفع به إلى فعل أي شيء رغبة منه في لفت الأنظار، والتعبير عن تمرّده ورفضه لمجتمع يهمّشه ولا يتفهّم مطالبه واحتياجاته، فيبدأ بممارسة أي سلوك غريب عن مجتمعه وواقعه أو بالتشبه بأقرانه في مجتمعات افتراضية خلقتها العولمة وثورة الاتصالات، يظنّها نموذج صعب التحقّق. بعض المظاهر تتمثل بإطالة الشعر وارتداء الملابس السوداء والرسوم التي تدق على الملابس والأجساد، والاستماع إلى موسيقى وأغانٍ غربية، قد لا يفهم من كلماتها شيئًا!

إنّها رغبة في الصراخ لإثارة اهتمام مجتمع لا يبدو أنّه يكترث أو يدرك خطورة الموقف، فيقع المراهق في إحباط جديد مضاعف هذه المرّة، ولا يمكن التكهّن بما يمكن أن ينتج عنه. ومع وجود جماعات "عبادة شيطان" حقيقية سيكون "المقلِّدون" ضحيّة سهلة للوقوع في براثن تلك الجماعات وما تقود إليه من إدمان وإجرام لا تُحمد عقباه، أو في الحد الأدنى سيكونون ضحية الجهل والاتهامات الغبية، وبالتالي نظرة المجتمع وموقفه السلبي منهم.

ولعلّ من المفيد لأولئك اليائسين المحبطين أن يميّزوا بين التمرّد والثورة، وهو ما ذهب إليه ندرة اليازجي في كتابه فلسفة الإنسان الثائر. حيث يقارن بين الثائر وبين المتمرّد. يقول: "الإنسان الثائر فيلسوف وعالم وحكيم يحقق وجوده وكيانه في كل المستويات والأبعاد. اليأس لا يعرف طريقًا إلى قلبه؛ والمحاولة الدائمة سبيله إلى التحقيق. وعلى الرغم من شعوره بالضعف أحيانًا، وبالقلق أحيانًا أخرى، لكنه يتابع مسيرته في عالم التحقيق من خلال ثورة إيجابية. الإنسان المتمرّد منفعل وسلبي، لا يحقق وجوده وكيانه في كل المستويات والأبعاد، يغمره اليأس، ولا يجد في السعي المثابر سبيلاً إلى التحقيق. ويشعر بالضعف ويصبح فريسة التذمر والرفض. لا يتابع مسيرته في نطاق التحقيق ويرى في الوجود عبثًا لأنه يراه خاليًا من المعنى".

هذا عن مسؤولية الفرد، أمّا عن مسؤولية المجتمعات والحكومات تجاه المراهقين والشباب فهي أوضح من أن تدبّج لها الشعارات والخطب الرنّانة. إنّهم بحاجة للاستماع إليهم ومناقشة وجهات نظرهم، والاعتذار منهم عن التقصير الحاصل في معالجة مشكلاتهم. وربما من المفيد بدلًا من تقريعهم واتهامهم جزافًا أن يتم توضيح التشابه بين ما هم فيه وبين أمورٍ قد لا يرغبون هم أنفسهم بأن يوصموا بها. بكلمة واحدة:، أي احترامهم، وبالتالي إشراكهم في امتلاك مصائرهم ودعم خياراتهم.

بغير ما سلف لا نظنّ أنّ المستقبل، والذي يفترض أنّ شريحة الشباب هي عنوانه والمعبّر عنه، سيكون أفضل حالًا من الشباب أنفسهم، مستقبل غامض لشباب حائر! فهل من مجيب؟

اقرأ/ي أيضًا:

يوميات القتل "غير" العادي 

 أم أمين التي تختصر النكبتين