12-مارس-2020

سوتر جاكا-ماشوفسكي/ بولندا

الأزرق يقترب، والخوف يغمرنا دون أن نغرق. لم أكن أدرك بأن للون أن يصبغك بالرعب لهذا الحد كما لم أدرك أنا أو أي من أهالي قريتي بأن الأساطير التي كانت تلوكها العجائز أن تستحيل يقينًا مطلقًا.

مر عام مرير على قريتنا، ابتدأ بوجوه صفراء مدقعة وانتهى بدماء زرقاء منسكبة تملء الطرقات، إذ مر بنا الرجل الأزرق.

ذات عصر جاء صوت الموج قويًا، ونحن قرية لا تفقه سوى اليابسة، من أين لليباس كل هذا الهدير. خرج أهالي القرية مسرعين نحو مصدر الصوت، بجماعات وأفراد كل تسبقه تخيلاته. خرج بعضهم بأغلى متاعه وأهله وأطفله خوفًا لانقضاض المجهول عليهم.

جاء المجهول إليهم يتهادى بارتفاع يقارب المترين، وجسد نحيل، بجلد أزرق لامع كحراشف السمك وعينان شديدة البياض. حتى الشعر واللحية كانتا باللون الازرق. كلما اقترب من أي شخص، شعر بانزعاج لا مبرر له، وكأن أحدهم يمر بإظفره على الحائط، ويتصاعد الأزيز داخلك حتى يغدو رعبًا. 

تسمر الجميع في أماكنهم، والفضول جذب البقية ليتوافدوا على ضفاف الشارع، ممتقعين بلا لون، يحبسون أنفاسهم. اقترب بمرح وابتسامة نكراء لا تغادر محياه، حتى مد يده رويدًا نحو طفل ووضعها على رأسه. شعر الحضور لجزء من الثانية بأن هذا الغريب قد برغم مظهره أن يكون ودودًا، الا أن توقعاتهم لم تكن إلا وبالًا عليهم.

أخذ اللون الأزرق يتفشى على جلد الطفل وكأنه سكب عليه سكبًا. كلما انتشر اللون فيه علا صراخ أمه وسرعة هروب الآخرين وأنا من شباك المنزل رأيته يسقط أرضًا والزبد يخرج من فمه، ومن ثم خر صريعًا على جانبه واللون الأزرق أكمل انسكابه على الأرض مارًا من خلاله. 

تفرق الجمع وهو يصرخ، والشجعان الذين حاولوا التصدي له نابهم ما ناب الطفل وانسكبوا على الطرقات. مرت الأيام ثقالًا وجرفنا تيار من الرعب، بتنا نضرم النار في كل شيء أزرق نطاله، ملابس، أغلفة الكتب، اقلام التلوين، أقمشة، حتى أي طلاء أزرق تمت إزالته، لا بل حرم لفظه. لم تطال أيدينا السماء لكننا حاربناها بالنظارات الشمسية. ورغم ذلك لم نفلح، أقمنا الحواجز وكأننا نستعد للطوفان لكنه كان يتسر منها ويحصد المزيد من الأرواح.

تلت تلك الأيام أشهرًا وهو لا يزال يحتل منزل أحد الضحايا، ويجرف المزيد منهم في جولات مسائية، والسؤال لا يجد من يجيبه

كيف نقهره؟

تكالب الجمع على بناء سد؛ هكذا نقتل المطر كان اقتراح البعض. وبذلك خفية تسللنا وبدأنا نعمل، حجر تلو الآخر. كانت تقتضي الخطة أن نلقيه فيها، دون أي منفذ يتسرب منه، لذا اقتضى أن يضحي أحدنا بنفسه، أجرينا قرعة إلا أن كهلًا قرر التضحية بنفسه. 

بصبر بطيء استدرجه الكهل، رويدًا رويدًا نحو السد والقوم ترقبه من قريب، وصلا الحافة والفرح يتربص مع الأهالي خلف السد، أمسك الكهل بجذعه وحاول أن يرميه، لكن لم يسعفه الوقت ولحق من سبقوه. بغضب وخوف تكاتف الأهالي معا وركضوا مرة واحدة نحوه وباتجاه فرصتهم الأخيرة.

أذاب قطرة تلو قطرة استحال الجمع بحرًا، وملؤا السد، ثلة من الأطفال بقوا ليروا للأجيال القادة، كيف لقريتنا اليباس بحر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصمت أقصرُ الطرق للسلامة

الوقت وحكايا الأطفال