19-أكتوبر-2015

تحولات استهلاكية طرأت على المناسبة الدينية (جوزيف عيد/أ.ف.ب/Getty)

في كلّ عام يُعاد المشهد نفسه، في كلّ شارع وفي كلّ حيّ، راياتٌ سوداء وأعلامٌ عاشورائيّة شعائريّة، ومجموعة الشّبّان الّذين اعتادوا الوقوف في إحدى الزّوايا ما زالوا مكانهم. ولكن هذه المرّة مرتديين الجينز والرّاينجر الصّحراوي العسكريّ، تّي شيرت الأسود الضّيّق، ولا ننسى بالتّأكيد الوشاح الأخضر هذا العام بعد زوال موضة الكوفية الإيرانية السوداء الّتي انتشرت في العامين المنصرمين بشكل ملحوظ. كلّ شيء مألوف كالعادة، الحواجز وزحمة السّير الجنونيّة في مواعيد المجالس العزائيّة، كلّ سيّارةٍ ستخضع للتّفتيش لا محالة إذا ما لم يتكلّم أحدها لكنة مألوفة في الضاحية الجنوبية لبيروت. كلّ هذا مع وجود عدد كبير من "متطوّعي" الانضباط في "اتّحاد بلديّات الضّاحية الجنوبيّة " للحفاظ على الأمن والسّيطرة في كلّ بقعةٍ تشهد نهرًا من السواد. كلّ هذا إلى حدٍّ ما يعتبر طبيعيًّا داخل حدود الضّاحية الجنوبيّة التي اعتادت على إحياء المراسم الدينية. لكن، أخيرًا، عاشوراء امتدت إلى الحمرا ومناطق بيروت!

سواد في شارع الألوان

شارع الحمرا الضّاحك ليلًا رغم تواجد طابع الكآبة فيه لم يسلم من موضة الموسم. وموضة الموسم هنا ليست الطقس الديني. الطقس الديني مسألة فردية. لكن الموضة هي الوشاح الأخضر فحسب، وظهور كلّ ما لا يحدث خارج هذه الفترة الزّمنيّة. في اللّيلة الأولى وبالضّبط في موعد المجلس العاشورائي في مجمّع سيّد الشّهداء المكتظّ بالمحيين، وبالتّزامن مع كلمة أمين عام حزب الله، وبعد أن استغرق الوصول إلى شارع الحمرا نحو السّاعة جرّاء الطّرقات المغلقة وتحويل السّير إلى طرقات سَلمت من الخيم العاشورائيّة، كان الشّارع رحبًا إلى أجلٍ قريب. حتّى منتصفه كان طبيعيًّا. ظلّ كذلك إلى أن مرّت سيّارة ترفع علمًا أسود وكبير. يرفع سائقها صوت النّدبيّات إلى أعلى مستوى. لا يتوقّف على إشارة السّير. لم يكن مسالمًا. أخذ معه شيئًا، سلب الشّارع حياته، تغيّر بعد مروره. خطوتان إلى الأمام وسيّارة أخرى، سيناريو مشابه ولكن من دون علم، لحقت بها الثّالثة، أمرٌ أشبه بغارةٍ منظّمة.

كلّ سيّارةٍ ستخضع للتّفتيش لا محالة إذا ما لم يتكلّم أحدها لكنة مألوفة في الضاحية الجنوبية لبيروت

مرّت السّيّارات مرور الكرام، الشّارع فاقد الأحاسيس وروّاده كذلك، تابعوا ليلتهم كما أنّ شيئًا لم يكن، حتّى العجوز لاعب الطّاولة في مقهىً "بطابع تراثي" صغير لم يوقف رشفته الطّويلة للمُرّة الّتي كان قد بدأها قبل مرور الموكب، لم يلتفت حتّى، رحل صوت السّيّارات وبقي صوت رشفته، ربّما لم يشعر بمرورهم أو تجاهله عمدًا. إلى الأمام قليلًا قبالة "كيوسك" يبيع أقراص الأغاني المدمجة ثمة خلل. حتّى هذا لحق ب "الدّارج" وغلب عليه في تلك اللّيلة صوتٌ بعيدٌ آتٍ من صوب الضّاحية وكأنّه فقط يعيد إطلاقه، ربّما هو فقط يريد التّرويج لبضاعته، ولكنّ وقع مذياعه كان ثقيلًا في الشّارع الّذي يستقبل الجميع. في الفراغ بين النّدبيّة وتاليها يقع الشّارع الرّحب، أما غير ذلك فكان المارّة يضيعونه.

لماذا يلاحظ المارّة صوت "اللطميات" العالي ولا يلاحظون صوت الأغاني في الأيّام الأخرى؟ ربّما هذا نتاج انحصار اللطميات بهذه الفترة فقط، أو ربّما لأنّ الأغنيات واللطميات على نقيض. لا يقبلان الجمع من أيّ ناحية. ساكن الحمرا لا يقصد الضّاحية ويرفع صوت الأغاني فيها، مع العلم أنّ الضّاحية ترحّب بالأغاني العالية في جميع أيّام السّنة الأخرى. يمكن إفشال المحاولة لاعتبار المراسم العاشورائيّة في الشّارع حرّيّة معتقد وكفالة شعائرها بالقول الشّهير " تنتهي حرّيتك عندما تبدأ حرّيّة الآخرين". الشّارع للجميع وهذا متّفقٌ عليه، ولكن في حضور هذه الحرّيّة لماذا لا يتذمّر البعض من صوت الأغاني؟ ربّما لأنّ جميع معتنقي الأديان غير المتشدّدين يرحّبون بها غالبًا. لاأحد يعلم، والإجابة هنا تتطلّب بحث ثقافي طويل عن الشّارع وعن ما يحدث فيه، عن هويته التي يُصار إلى محاولة تبديلها.

انتشار سياسي!

أن تمرّ تلك السّيّارة المتعصّبة في شوارع الضّاحية أو أيّ منطقة بمكونات اجتماعية مشابهة، فهذا أمرٌ لا يثير سجالًا. أمّا أن تمرّ ذاتها في شارع المقاهي البعيد كلّ البعد عن جميع الشّعائر الدّينيّة فهذه مسألة تُطرح ويطول الحديث فيها. الجميع يعرف أنّ الحمرا هي منطقة لا تخضع لنفوذ حزب الله المباشر من حيث التوزع الديموغرافي، ولا يمرّ طريقٌ فيها مؤدٍّ إلى أحد المناطق الّتي تقام فيها المراسم. صاحب السّيّارة تعمّد التّجوّل، تعمّد إبراز العلم الأسود الكبير ورفع مستوى صوت النّدبيّات ولكن لِماذا فعل ذلك؟ البعض يعتبرها وسيلةٌ لإثبات الذّات ولفت النّظر، هو نفسه من يضع الأغاني ويتصرّف بنفس الطّريقة باقي أيّام السّنة ولكن ليس في هذه الأيّام العشر. البعض الآخر يرفع المعايير إلى مستوى الجماعة لا الفرد، ويدخل في خندق الطّوائف ووحش التّعصّب النّائم، يعتقدون أنّها رسالة شديدة اللّهجة تقول إن أهل الحزب هم الأكثر انشارًا وقادرين على احتلال الشّارع الّذي يريدون ووضع بصمتهم حيثما يريدون.

الجميع يعرف أنّ الحمرا هي منطقة لا تخضع لنفوذ حزب الله المباشر من حيث التوزع الديموغرافي

وفي الثقافة، تجوّل تلك السّيّارات بالضّبط في موعد المجلس الحسينيّ يدلّ على شيءٍ واحد وهو أنّ المحيين أو بعضهم على الأقلّ، يهتمّون بالمظهر والانطباع المأخوذ عنهم أكثر من اهتمامهم بالمناسبة بحدّ عينها. يهمّهم أن يكونوا بارزين، ليس لبعضهم، بل لكلّ من هو مختلف، وهذا على هامش العيش المشترك ودفن الطّائفيّة، يضحي هذا ظلامًا دامسًا يخيّم على شوارع المدينة.

صغار الكسبة وأهل الموضة الدينية

يزيد من ضيق الشّوارع في الضّاحية عربات البائعين. أعلام، إكسسوارات، أحجار كريمة، أقراص مدمجة، تي شرتات وقد طُبع عليها "313 رافضي" ويرمز الرّقم الأخير حسب الرّوايات إلى عدد أنصار الإمام المهديّ. وهذه أسطورة دينية أخرى، لكن أهل الأديان أحرارُ بأساطيرهم. كلّ شيءٍ يباع هنا، كلّ ما هو أسود أو ما يمتّ للمناسبة بصلة. يتكاثرون في الأحياء الفقيرة. باعة الأديان، يستفيدون من الموجة الحاليّة، يسمّون هذا الشّهر ب "الموسم". أما "رافضي"، فتطبع من باب "النكاية" بالجماعات التكفيرية، غير أن "النكاية" تصب في خانة الاعتراف وتصب في خانة التصعيد المذهبي.

عددٌ كبيرٌ من الباعة لا يعمل بائعًا جوّالًا في بقية أيّام السّنة ولكنّه يحاول الاستفادة من هذه الفترة

عددٌ كبيرٌ من الباعة لا يعمل بائعًا جوّالًا في بقية أيّام السّنة ولكنّه يحاول الاستفادة من هذه الفترة قدر المستطاع. قرابة السّابعة يتجهّز الجميع، بكامل العتاد واللّباس التّقليدي الّذي ارتدته الفتايات كذلك، فهنّ أيضًا يصرنّ متدينات فجأة. كلّ من يمرّ في الشّارع تقريبًا هو إمّا ذاهبٌ للمكان المعتمد وهو مجمّع سيّد الشّهداء، أو ذاهبٌ لإحدى المقاهي المجاورة، لمشاهدة المجلس العاشورائي في التلفزيون ولكن مع "الأرغيلة". أليس هذا غريبًا؟ التحولات الاستهلاكية المضافة إلى الطقوس. الوشاح الأخضر والنارجيلة وأسواق اللطميات. كل هذا يشوه الذكرى المقدّسة ويفتت معناها. شيءٌ ما يحوّل هذه الفترة الّتي من المفترض أن تكون حزينة عند فئة من المتدينين، إلى موضة لا تستثني أحدًا. والمريب هو الانسياق الجماعي خلف هذه الموضة، ليس موضة الاستماع للمجالس وإحياء الشّعائر الدّينيّة فهذه حرّيّة لا يمكن المسّ بها، ولكن موضة الوشاح الأخضر، تصير تقريبًا بمثابة تصريح للتجول، وإعلان "موقف سياسي"، غالبًا ما يكون حادًا وفي غير مكانهِ.

اقرأ/ي أيضًا:
نوستالجيا في مدينة الخامسة صباحًا
الجيش اللبناني أغان بكامل العتاد
عن الباشورة التي تحرس بيروت وتراقبها