13-أغسطس-2015

من الفيلم المأخوذ عن الرواية

لا تصل شخصية راندل ماكمورفي إلى ذرى أبطال الأدب مثل فاوست وهاملت، ولا تمثل الرواية عملًا خالدًا مثل دون كيخوته، لكن "طيران فوق عش الوقواق" للكاتب الأمريكي كين كيسي، الذي صدر عام 1962 في زمن الحركات الاحتجاجية المطالبة بالحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية، تحوّل إلى كتاب مقدس ومثّل بطله تجسيدًا لجيل الستينيات وأفكاره الثائرة على السلطة وأي قوى تحدّ من حرية الفرد. لذلك، كان وما يزال ماكمورفي، على خلاف شخصيات الأدب الشهيرة، فكرة أكثر منه بطلًا. وهذا ربما أكثر ما جسّده ماكمورفي لنزلاء المصح العقلي في الرواية.

كان الضحك عنصرًا هامًا في عصيان ماكمورفي، وخاصة عندما وجد أن النزلاء الآخرين غير قادرين عليه

الرواية التي تصدر قريبًا في طبعة ثانية عن "دار الأهلية" بترجمة الكاتب السوري صبحي حديدي، بعد أن صدرت طبعتها الأولى قبل أكثر من ثلاثين عامًا (1981) عن "مؤسسة الأبحاث العربية".. تبدأ مع وصول النزيل الجديد ماكمورفي الذي جاء إلى المصح مدعياً الجنون لإكمال حكم بالسجن لستة أشهر. كان وصوله حدثًا بالنسبة لنزلاء المصح العقلي، وخاصة الزعيم برومدن، المذعنين لسلطة الآنسة راتشدت أو كما تلقب "الممرضة الكبيرة".

راوي الأحداث الزعيم برومدن، الهندي من جهة الأب، هو أقدم النزلاء وأكثرهم مسالمة وعنادًا، إذ استطاع أثناء وجوده الطويل أن يخدع الجميع مدعياً الصم والبكم. استطاع تطوير هذه الآلية كي يدعه الآخرون بسلام.

كان ماكمورفي بالنسبة له الرجل والفكرة التي تتحدى الائتلاف، وهو الاسم الذي أطلقه الزعيم على كل سلطة موجودة. الائتلاف هو الذي تمكن من شراء بيتهم إلى جانب بيوت عائلات أخرى من القبيلة ذاتها، وهو الذي دفع والده، زعيم القبيلة، إلى إدمان الكحول والشعور الدائم بالفشل. الائتلاف ذاته، بالنسبة لبرومدن، هو الذي يحكم النزلاء في المصح العقلي، وممثلته هي الممرضة الكبيرة.

نجح الائتلاف في فرض سيطرته حتى جاء النزيل الجديد. لقد عصى أوامر الآنسة راتشدت، لعب البوكر، استفاد من أموال النزلاء الآخرين. لقد تحدى الامتثالية المفروضة بعبثه ولهوه، والأهم من ذلك بضحكاته. كان الضحك عنصرًا هامًا في عصيان ماكمورفي، وخاصة عندما وجد أن النزلاء الآخرين غير قادرين عليه، إذ لا يوجد مكان للضحك في عالم الائتلاف، وخاصة لهؤلاء "المخصيين".

لم يتوقف كين كيسي في روايته عن الإشارة إلى فكرة الإخصاء. الإخصاء الذي تعرض له النزلاء، والإخصاء الذي عانى منه والد برومدن على يد الائتلاف وعلى يد زوجته، والدة برومدون، البيضاء. ويبدو واضحًا تلميحات الكاتب إلى فكرة الإخصاء على يد النساء خاصة، وقد أشار مرة صراحة إلى ذلك على لسان إحدى شخصيات الرواية ونزلاء المصح حين ذكر بأنهم ضحايا "النظام الأمومي".

لكن الإخصاء هو مصطلح آخر للامتثالية التي يفرضها المجتمع ومؤسساته التنفيذية على الفرد. الامتثالية التي تزرع الجبن في قلوب الأفراد فلا يتمكنوا لاحقًا من الجهر بأفكارهم وميولهم ورغباتهم. هي الامتثالية التي تحبس الفرد تحت رحمة المجتمع وتقاليده المكرّسة.

لقد تحدى ماكمورفي كل ذلك، لقد أراد أن يصل بحريته وعبثه إلى أقصى مدى متاح، وهو ما جعله على صدام مع الممرضة الكبيرة، لكنه الأمر الذي حوّله إلى مخلّص بالنسبة إلى هؤلاء النزلاء "المخصيين" والممتثلين لـ"الائتلاف"، وخاصة بالنسبة للزعيم الذي أوضح له ماكمورفي بتمرده وجرأته بأنهم أكثر من مجرد ديدان تكون طعامًا لجشع الائتلاف، أو آلات تخدم السلطة، أي سلطة، إنهم أفراد حقيقيون.

لقد استطاع كين كيسي التقاط تفاصيل الحياة اليومية في المصح العقلي بسبب عمله سابقًا كمراقب ليلي في أحد المصحات العقلية، وأيضاً لخضوعه طوعًا إلى تجربة العلاج بالصدمة الكهربائية كي يستطيع التقاط المشاعر الدقيقة التي يحسّ بها المريض أثناء وبعد هذه العملية. وإن استطاع الكاتب الغوص في الخفايا المظلمة لنفوس هؤلاء النزلاء، وخاصة الزعيم برومدن، فتجب الإشارة هنا إلى قدرة الممثل الأميركي جاك نيكلسون من تحويل ماكمورفي من مجرد فكرة وتجسيد لمثل أعلى إلى شخص من لحم ودم في أدائه الرائع في الفيلم الذي أُطلق عام 1975 حاملاً العنوان نفسه ومن إخراج التشيكي ميلوش فورمان.


حين عبث نيكلسون بالعش