من الصعوبة احترام الكِتاب الفاتِن، لأنّه يدفع القارئَ إلى قطع خطّ القراءة، لأجل أن يرفع رأسه، من حين إلى آخر، مستوعبًا – للحظات– وهج الفتنة المندلعة فيه مثل حريق مفاجئ، ومتأمّلًا في مباهج النصّ، ومستغرقًا في النصّ– الآتي الذي سيولد من تجربة الافتِتان. كلّ قراءة مفتونة هي ضرب من قلّة الاحترام. هكذا لمّح رولان بارت. لكنها قليلة هي تلك النصوص الفاتنة.

بالنسبة لميلان كونديرا، فقدت الثقافة المعاصرة قدرتها على التريّث والبطء

هناك شكل آخر من عدم احترام النصّ، هو التسرّع في تقييمه أو الحكم عليه. لم يعد القارئ اليوم، وبتأثير من التقنية، أو ربّما لسبب نفسي خالص، يملك الوقت ليقرأ ببطء، ويتأمّل النصّ، ويحفر فيه بحثًا عن نصوص غائبة فيه أو عن دلالات خفية. إنّه مسكون بالسرعة، حتّى في كتابة تعليق أسفل نص باذخ. فأن تُكاشِف النصّ بفهمك السريع له، هو دليل قلة احترامك له! أضف إلى ذلك أنّ القارئ اليوم يعبِّر عن علاقته بالكتب من خلال النهم. فقد استعت دائرة القراء الذين يضعون قوائما طويلة من الكُتب التي ينبغي قراءتها طيلة سنة كاملة، فيتحدون أنفسهم قبل غيرهم، ليقرأوا أكبر عدد من تلك الكتب. لكن نتساءل: ما معنى أن نقرأ أكبر عدد من الكتب؟ ما الذي نريد أن نبلغه من تلك القوائم التي تشبه إلى حد ما قوائم المقتنيات الموجهة للاستهلاك اليومي؟ و هل قراءة الكتب الكثيرة حالة صحية؟

اقرأ/ي أيضًا: فيليب روث: حين أكتب فثمّة أنا، وحدي

إنّ تقييم النص عمل بطيء، لهذا فالسرعة هي ضرب من استحالة الفهم، أو بالأحرى ضرب من اللامبالاة حتّى لو لبست معطفًا أنيقًا! التقنية عدوة البطء، والقيمة هي التي تتشكّل بعد مدة زمنية طويلة، قبل أن تتخذ شكلها النهائي. هذا يذكرني برواية "البطء" للروائي الفرونكو - تشيكي ميلان كونديرا، حيث يبيّن فيها أن الثقافة المعاصرة فقدت قدرتها على التريّث والبطء، والاستمتاع بتلك اللحظات الهاربة من الحياة؛ العالم السريع عالم فقد قدرته على الاستمتاع. إنّ القراءة السريعة تلغي ما هو أساسي في القراءة ألا وهو المتعة. كما تعطّل الذاكرة، لأنّها تنذر القراءة على فعل النسيان. ماذا سيبقى من تلك النصوص التي قرأناها بسرعة خاطفة؟ لن يبقى منها أي أثر يُذكر. وحدها القراءة البطيئة هي قراءة تحفر في الذاكرة، وتحرص على الإبقاء على أثر النصوص لمدة أطول في الزمن.

اكتسبنا اليوم، فيما نكتبه في مواقع التواصل الاجتماعي والتي تحوّلت إلى البدائل الممكنة لغياب المساحات التقليدية للنشر والكتابة، هواية توزيع التعليقات المقتضبة والمختزلة على نصوص تحتاج إلى وقت طويل لقراءتها، ولوقت أطول لفهمها. وقد نبهتني الروائية المصرية عزت القمحاوي في كتابها الجميل "كتاب الغواية" إلى ظاهرة الكتابة عن روايات لم تُقرأ، وأشارت على سبيل المثال إلى رواية "عوليس" للروائي الإيرلندي جيمس جويس، فالجميع يتحدث عن عوليس وعن تأثرهم بهذه الرواية وقلة منهم من قرأها.

أصبح القارئ اليوم يطالب بالنص السريع، النص – الساندويش، الذي يُلتهم بسرعة. إنه يهاب النصوص الكثيفة، لأنّه مشغول دائماً باصطياد التفاهات. صار القارئ اليوم يكتفي بقراءة عنوان ليقيّم نصا بأكمله، أو جملة ليُحاكم كاتبًا. إننا ننتمي إلى عصر مضاد للبطء، عصر تخلّص من آداب احترام النصوص.

إعادة القراءة جزء من آلية تكثيف المتعة. عندما لا نعيد قراءة الكتاب نكون قد تخلصنا منه

اقرأ/ي أيضًا: كارل أوفه كناوسغارد: الأدب المعاصر لا يستحق كل هذا الاحتفاء!

هل يملك قارئ اليوم المزاج لإعادة قراءة روايته المفضلة؟ إعادة القراءة جزء من آلية تكثيف المتعة. عندما لا نعيد قراءة الكتاب نكون قد تخلصنا منه، إذ هناك بعض القراء يعمدون إلى التخلص من الكتب التي قرأوها بإهدائها أو رميها، معتقدين بأنّهم لن يكونوا بحاجة إلى تلك الكتب التي قرأوها ذات زمن. بعض الكُتّاب يتحدثون عن الاستمتاع الذي رافقهم وهو يعيدون قراءة روايات قرأوها في شبابهم، فيليب روث، وبعد اعتزاله، كان يعيد قراءة الروايات التي قرأها في يفاعته، شأنه شأن هنري ميللر الذي نصحنا في كتابه "كتب في حياتي" بالتقليل من قراءة الروايات، لأنّ الروايات العظيمة قليلة، وفي نفس الوقت تحدث عن الروايات التي كان يعود إليها لقراءتها. حين نلقي كتابًا في مكتبة قديمة أو في مزبلة فنحن نعبّر عن قلة احترامنا لها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمود درويش.. هنا أيها الموت

إيّاكم وشعراءَ كليّات الآداب