19-ديسمبر-2021

حدائق المدن مناف. ننفي إليها من لا يستطيع السعي

حديقتان تحيطان بالمبنى الذي أقيم فيه. حديقتان تعب المهندسون كثيرًا في تصميمهما. مع ذلك لم يخطر ببالي أن أجلس في واحدة منهما لأحادث الحمام والعصافير والسناجب. ثم ما الذي يمكنني أن أفعله في حديقة غير محادثة العصافير والسناجب؟ لا أقول إن مثل هذا النشاط لا قيمة له. لكنني لا أشعر أنني أنتمي إلى هذا الصنف من البشر الذي يحسب نفسه سليل آلهة، ويريد أن يوزع حبًّا على الكائنات الأضعف منه. أعتقد أنني أنا نفسي بحاجة للحب. بحاجة لمن يحادثني، من يسألني عن أحوالي ويستمع إلى قصصي الحقيقية. لا تلك التي أضفت إليها مفارقات مضحكة أو مخيفة أو مغامرة. القصص الحقيقية التي تؤكد أنني كائن فاشل في كل شيء. كم مرة غضبت ممن أحبهم، وكدت أخسرهم بسبب حماقتي. وكم مرة تركت خلفي قلوبًا مكسورة وكلامًا كان يجب أن يقال، لمجرد أنني لم أعرف كيف أتصرف؟ هل يصلح مثل هذا الكائن لجبر قلوب العصافير والسناجب؟

نعيش في صحراء اللغات. الحوار الذي نطمح لإقامته مع الآخرين، سرعان ما يتحول إلى مواقف صلبة لا يمكن تكسير حروفها

يقال لي إن محادثة العصافير قد تصلح ما أفسده مزاجك. لكنني أملك كلامًا كثيرًا أريد أن أبوح به لأحد ما. كلام لا تفهمه العصافير، هو كلام من قبيل: هل نستطيع سويا أن نحسن من الشروط المجحفة التي تدفعنا للعيش في صحراء اللغات؟

اقرأ/ي أيضًا: قصّة شَعر شيرين

همممم. هذا هو بيت القصيد. نعيش في صحراء اللغات. الحوار الذي نطمح لإقامته مع الآخرين، سرعان ما يتحول إلى مواقف صلبة لا يمكن تكسير حروفها. التجارب التي نريد مشاركتها مع الآخرين، سرعان ما تضعها التقنيات الحديثة في خانة انتهاء الصلاحية. المكان العام الذي من شأن الانتساب إليه أن يطمئن المرء إلى تجاوز المخاطر التي تحفل بها الأيام المقبلة، لم يعد موجودًا. لقد أصبح لقاؤنا بالآخر في المكان العام محصن بألف درع ودرع. وهي دروع سرعان ما تتحول إلى أدوات قتل، وتجعلك خائفًا من جارك وتجعله خائفًا منك. تقود سيارتك على طريق سريع. هذا يعني أنك تعيش في قوقعة معدنية، وأن كل من يشاركك الطريق قد يقتلك إن أخطأت أو سهوت. وهذا يعني أنك ستصبح عنيفًا لو حدث وأخطأ السائق الذي يقابلك أو سها انتباهه لحظة. كل هذا العنف الذي تقابله به سببه لحظة سهو. هل ما زلنا كائنات اجتماعية؟ هل ما زلنا نقيم وزنًا لسلامة الآخرين بوصفهم عونًا لنا في الشدائد والمكاره؟

في الحياة المعاصرة أصبح الإنجاب عبئًا على الأهل. نكره أولادنا الذين امتنعنا عن إنجابهم لأنهم لو قدر لهم أن يولدوا، لما كانوا ليكونوا أكثر من عبء ثقيل علينا. إذا كنا نكره أولادنا الذين لم ننجبهم، فكيف يسعنا أن نعطف على جيراننا أو المارة الذين يخفون وجوههم الحقيقية تحت أقنعة التهذيب المبرمج؟

أصبح لقاؤنا بالآخر محصن بألف درع ودرع. وهي دروع سرعان ما تتحول إلى أدوات قتل، وتجعلك خائفًا من جارك وتجعله خائفًا منك

في الحديقتين، ثمة عجائز يجلسون في الأيام المشمسة والدافئة. العجائز وحدهم من يستطيعون أن يحادثوا العصافير. فقصصهم أصبحت بالتأكيد غير قادرة على إثارة أحد، أو تعليمه. والمارة لن يعيرونهم اهتمامًا يذكر، فليس ثمة متحرشون يرغبون في التحرش بعجائز لا يستطعن السير بدون عكازات، وليس ثمة مشرد يظن أن هؤلاء قادرين على الإحسان إليه، وليس ثمة سارق يطمع بأموالهم القليلة.

اقرأ/ي أيضًا: المكان بلا جهاته

حدائق المدن مناف. ننفي إليها من لا يستطيع السعي. من لا تسعفه قدماه على المسير الذي لا ينتهي. من لم يعد موضوعا لرغباتنا وجشعنا وانتقامنا. هؤلاء يعيشون في سلام المدن المصطنع. أما الآخرون كل الآخرين فليسوا أقل من أعداء، وعليك أن تنهشهم بأسنانك إن استطعت.   

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيان البهجة المفتقدة

دينو بوتزاتي.. روائي على الحدود السائلة