24-ديسمبر-2020

لقطة من فيلم "الحب والموت" لـ وودي آلن

ما قاله القديس أوغسطين عن الزمن، ينطبق على الحب أيضًا: "إذا لم تسألني فأنا أعرف، وإذا سألتني فأنا لا أعرف". ومع ذلك فإن باتريك زوسكيند يقرر مجابهة هذا السؤال الخالد: ما الحب؟

ما قاله القديس أوغسطين عن الزمن، ينطبق على الحب أيضًا: "إذا لم تسألني فأنا أعرف، وإذا سألتني فأنا لا أعرف"

في كتاب صغير بعنوان "عن الحب والموت"، يرحل الروائي الألماني خلف الإجابة، مستقصيًا آراء الفلاسفة والشعراء والروائيين، ومستشيرًا الأسطورة والموسيقى والكتب الدينية. غير أن الهدف المنشود يبدو أشبه بالسراب الذي يظل يلمع في الأفق دون أن يكف عن كونه عصيًا على اللمس. وما هي إلا صفحات حتى تتشابك الأفكار وتتشعب الطرق، والسؤال الواحد يغدو أسئلة كثيرة: هل الحب مجرد فعالية كيميائية عضوية؟ هل هو مسألة سيكيولوجية؟ هل ينتمي إلى دائرة الـ"ما فوق" والمتعالي؟

اقرأ/ي أيضًا: "عن الحب والموت".. باتريك زوسكيند في مطبخ الشيطان

وماذا عن الشعراء الذين أشبعوا الحب كلامًا عبر العصور؟  إنهم ـ يقول زوسكيند ـ لا يكتبون عما يعرفونه حق المعرفة، بل عما لا يعرفونه حق المعرفة. إن حالة عدم المعرفة هي الحافز الأساسي الذي دفعهم للإمساك بالقلم أو الريشة أو القيثارة. ولو كان الوضع مغايرًا لما وُجدتْ قصائد بل تصريحات وحسب.

يسمي سقراط الوقوع في الحب ذهولًا، مرضًا، جنونًا. لكنه يضيف بأنه ليس ذهولًا رديئًا بل من أفضل أنواعه، وليس مرضًا مهلكًا، وليس جنونًا بشريًا بالمعنى المرضي، بل موحى من الآلهة، إنه هوس يتوق للإلهي، جنون إلهي يمنح أجنحة للروح المعتقلة أرضيًا. ويصرخ زوسكيند محتجًا: "يا لهذا الهراء الذي لم يفقد صلاحيته منذ ألفين وخمسمئة سنة وحتى اليوم".

ما الحب إذًا؟ يستعرض الكاتب ثلاثة أمثلة عن الحب، اثنان كان هو شاهدًا عليهما، والثالث قرأه في بضعة كتب. وبعد مناقشة الأمثلة الثلاثة والمقارنة بينها، يصل إلى هذه النتيجة الصادمة: "العشق والحب تلازمهما كمية معتبرة من الغباء". ويتساءل: إذا كنا نعتبر الحب أفضل ما يمكن أن نعيشه، وأنه جالب السعادة والمحفز الأكبر على الإبداع وإنجاز الأعمال العظيمة، فكيف يكون هو نفسه الذي يتسبب لنا بهذا القدر من الغباء والرعونة والسخافة؟ ما الحل لهذا المأزق؟

لكن سؤالًا آخر يفرض نفسه بقوة أكبر على فضول المؤلف: ما علاقة الحب بالموت؟ ما سر هذه العلاقة بين أريوس (إله الحب) وثاناتوس (إله الموت)؟ لماذا ينشبك الاثنان في هذه الرقصة الجنونية الشاذة منذ قديم الزمان؟

في عصور غابرة كان الموت ذلق اللسان واجتماعيًا، كان جزءًا من العائلة والمجتمع، وكان الناس يواعدونه ولا يتجنبونه، كانوا يرفعون الكلفة معه. غير أن هذا تغير جذريًا في المئتي سنة الأخيرة. بات الموت أميل إلى الصمت ويأمر بالصمت، ونحن نستجيب لرغبته ونصمت، لا لأننا لا نعرف عنه شيئًا، بل لأنه ناف أبدي، هادم للذات، ومفسد حقيقي للأمور، ونحن في أيامنا هذه لا نرغب في التعامل مع هؤلاء على الإطلاق. فلماذا إذًا يرتبط الحب بهذا المتجهم المنفر؟ بل لماذا يبادر هو إلى هذا الارتباط؟.

يستطيع أحدنا ـ يقول زوسكيند ـ أن يفهم هذين الموقفين: موقف البحث عن الموت باعتباره المخلص الممكن الوحيد من عذابات الحب غير المحتملة، والموقف الآخر (الفروسي) الذي يرى في الموت مجازفة ضرورية مقبولة أثناء ملاحقة الهدف الأيروسي. غير أن النقطة التي يتوقف عندها تفهمنا المتعاطف مخليًا المكان للاشمئزاز، هي عندما يرمي أيروس نفسه في أحضان ثاناتوس وكأنه يبغي الذوبان فيه، أي عندما يبحث الحب عن أسمى وأنقى صيغة له ويحققها في الموت.

جذور هذا الموقف الغريب تعود إلى القرن السادس عشر، وكانت البداية في الفنون التشكيلية ثم انتقلت إلى الأدب وبقية الأشكال الثقافية والاجتماعية، والأمثلة على هذه العلاقة المشؤومة كثيرة للغاية، سواء في الحياة أو في الفن.

هناك، مثلًا، هاينريش فون كلايست (1777 ــ 1811)، الشاعر والقاص الألماني الذي ظل يبحث عن امرأة ترضى مشاطرته الحب أولًا، ثم مشاطرته الموت، وقد عثر على ضالته في امرأة يقال إنها كانت مصابة بالسرطان، وفي يوم من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1811، وعلى شاطئ بحيرة جنوب برلين، أرداها قتيلة بطلق ناري قبل أن يقتل نفسه بطلق آخر.

بات الموت أميل إلى الصمت ويأمر بالصمت، ونحن نستجيب لرغبته ونصمت، لا لأننا لا نعرف عنه شيئًا، بل لأنه ناف أبدي، هادم للذات

أورفيوس يقف على النقيض من هذا، فبطل الميثيولوجيا الإغريقية يفتتح تاريخ أولئك الذين لا يقبلون الموت في سبيل الحب. لقد فقد حبيبته وزوجته الشابة يوريديس بعد أن لدغتها أفعى، فقرر ببساطة أن يلحقها إلى أرض هادس، أرض الأموات، لا ليموت معها فهو لا يقر الانتحار حتى من أجل الحب، بل ليستعيدها إلى الحياة، إلى هذه الدنيا المحكومة بالفناء، ليقضيا بقية عمرهما معاً، ثم فليكن الموت. أورفيوس لا ينشد الخلود لا له ولا لحبيبته، أنه فقط يريدها أن تعيش معه فترة أطول، كحبيبة وزوجة. هو لا يبحث عن الما فوق أرضي ولا عن القبس السماوي الملهم، هو باختصار يتشبث بنصيبه في هذه الحياة ويريد عيشه حتى آخر قطرة.

اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. انعزاليون في عالم عدائي

هنا يختتم زوسكيند كتابه، فهل هذه هي إجابته: أورفيوس وقتاله البطولي من أجل الحب الأرضي العابر والزائل والمحكوم بالموت، دون خيالات، دون أوهام ميتافيزيقية؟

باتريك زوسكيند كاتب وروائي ألماني، ولد في أمباخ العام 1949. كتب رواية "العطر" عام 1985, والتي حققت شهرة واسعة في العالم وكذلك بين قراء العربية. وله أعمال أخرى منها: "عازف الكونترباص" 1981، "الحمامة" 1987، "ثلاث قصص" 1995، "حكاية السيد زومر" 2003.

 

اقرأ/ي أيضًا:

باتريك زوسكيند.. قصة مشّاء

فيلم "Perfume".. مأساة رجل بدون رائحة