12-ديسمبر-2021

غرافيتي في طهران

لا أدري متى أصبحت البهجة هي ما يحدد قيمة حياة الإنسان على الأرض. البحث عن السعادة قديم جدًا. لكنه بحث متكرر كل جيل كما لو أن مبتغاه لم يتحقق أبدًا. هذا على الرغم من أن ابتكار فكرة البحث عن السعادة بوصفها هدف لحياة الإنسان على الأرض، هو أمر مفصلي وبالغ الأهمية في تعيين الخطوات التي قطعتها الإنسانية في رحلة بحثها عن السعادة.

تأسيسًا على فلسفة الوفرة المحققة للسعادة، قامت فلسفات تدعو إلى التخلص من البشر الفائضين عن الحاجة عبر الحروب

الديانات على مر التاريخ، لطفت من قسوة الحياة، وبشرت الناس باحتمال تحقق السعادة أقله في السماء. وقد تكون هذه الديانات هي ألطف ما مر على البشرية من أفكار جامعة. ذلك أنها حثت على الصبر واحتمال المكاره، وجعلت للعيش على الأرض معنى عميقًا يتمثل بالوعد بحياة سعيدة وهانئة في الدنيا الآخرة. إنما ورغم كل المتع الموصوفة في تواريخ الحياة الدنيا منذ بدء التدوين وحتى اليوم، إلا أن الحياة على الأرض كانت تُعرّف غالبًا بوصفها صبر على المكاره ومعاناة الشدائد، ومواجهة المخاطر، أملا في تحسن شروطها على الأرض وتحقيق السعادة فيها.

اقرأ/ي أيضًا: الهويات الآفلة والعصبيات الناهضة

مع هيمنة الثورة العلمية والصناعية وولادة المدن وتسيد أهل الاختصاص واشتراطه، بدا للمفكرين الأوروبيين أن احتمال تحقيق السعادة على الأرض ممكن، ما دام الإنتاج العالمي يتجه نحو تحقيق الوفرة في كل شيء. ما يعني أن الحاجة التي تجعل الحياة سعيًا لتلبيتها، لن تعود ملحة في المقبل من السنوات، وسيستطيع الناس أن يهتموا بشؤون أخرى، تمثل في الوعي العام أسبابًا للسعادة لا يمكن دحضها.

وتأسيسًا على فلسفة الوفرة المحققة للسعادة، قامت فلسفات تدعو إلى التخلص من البشر الفائضين عن الحاجة عبر الحروب، ونحت فلسفات أخرى إلى اصطفاء أعراق بعينها أو شعوب أو ثقافات واعتبارها مستحقة للسيادة على الأعراق والشعوب الأخرى واستعبادها. وتحت وطأة هذه الأفكار نشبت حروب لا ترحم وطُبقت سياسات استغلال واستعباد لا تطاق. وذلك كله جاء سعيًا لتقصير الزمن المطلوب لتحقق الوفرة عبر تقليص أعداد المحتاجين.

مع ذلك، لم تحيلنا الحياة البشرية إلى البهجة إلا لمامًا، أو في أوقات قصيرة جدًا. ربما تكون الفترة التي تلت التعافي الأوروبي من جروح الحرب العالمية الثانية هي الفترة الوحيدة التي بدا فيها أن البهجة ممكنة التحقق. في تلك الأثناء راجت أغنيات وصنعت أفلام سينمائية تصف هذه البهجة الخفيفة التي تضرب مدن أوروبا كوباء وتحتفي بها. وبدت، رغم خفتها، قادرة على إقناع حركات سياسية معارضة بأن تحققها وتعميمها ممكنان على نحو قاطع، فراجت في تظاهرات احتجاج أيار/مايو 1968 عبارات من قبيل "اصنعوا الحب لا الحرب" وانتشرت صور رجال ونساء يتبادلون القبل قرب نيران الاحتجاج، بوصفها علامة لا تدحض على أن البهجة قرب المنعطف القريب، وأن ما يفصلنا عنها ليس أكثر من سياسات خاطئة. والحق، إن هذه الأفكار التي تفترض أن السعادة ممكنة التحقق والبهجة قريبة المنال، وما يفصلنا عن تحققهما لا يتعدى تعديل في السياسات العامة بحيث يصبح توزيع الثروات عادلا، وينعم الناس كل الناس بالحظوظ نفسها من الفرص والاحتمالات، ما زالت تتسيد على أفكار البشر ويصعب عليهم نزعها من أحلامهم.

هذه الأفكار ما زالت تقيم بيننا اليوم، ويجهر بها مفكرون ويتبعهم غاوون لا يحصون عددًا. في وقت لم يعد الموضوع موضوع وفرة أصلًا، فالإنتاج العالمي من الغذاء يفيض عن حاجة البشرية أضعافًا. لكن الجوع ما زال قائمًا وحالًا في نصف الكرة الأرضية أو أكثر قليلًا. وفي وقت باتت الدول الأكثر تصلبًا وشمولية تعترف بالمساواة بين الأعراق والشعوب، ما زال أمر استغلال شعوب بأكملها يجري على قدم وساق في كل مكان. بل يبدو الاستغلال اليوم كما لو أنه منحة من المستغل (بكسر الغين) للمستغل (بفتحها). وأصبح الحصول على عمل يفني المرء فيه سنوات حياته وأيامه مجهدًا ومتوترًا وخائفًا من المستقبل، يبعث على سعادة طالب العمل، لأن بديل تعرضه للاستغلال لن يكون أقل من تعرضه للإهمال المودي إلى الاختفاء من الوجود.

بات تعريف السعادة التي يمكن للمرء تحقيقها في الراهن من الأيام يتلخص بتعرضه للاستغلال

على نحو ما، بات تعريف السعادة التي يمكن للمرء تحقيقها في الراهن من الأيام يتلخص بتعرضه للاستغلال. أي أن يمضي حياته وكل وقته المتاح مهتما بعمله وشؤونه، فينسى أن ثمة حياة على الناصية تستحق أن تعاش. لكنه في كل الأحوال يستطيع معاينة هذه الحياة التي لن يمتلك يومًا شروط تحققها، على الشاشات وصفحات المجلات وكليبات الأغاني.

اقرأ/ي أيضًا: مؤرّخو المنصّات

كان رولان بارت قد لاحظ في ستينات القرن الماضي، يوم كانت البهجة في ذروة انتصار ادعائها، أن السكرتيرات محدودات الأجر والممرضات والعاملات في المهن الدنيا هن من يقرأن مجلة (ELLE) التي تقدم وصفات للطبخ تتضمن موادَ لم تسمع بوجودها قارئات المجلة. ذلك أن قارئات هذه المجلة، كن يعشن الحياة يومًا بيوم، وليس لديهن من أحلام سوى تلك الوصفات التي لن يطهين أي منها طوال حياتهن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قدر الأغراب

نشيد العولمة