إن استدعاء كاميرا شيرين نشأت إلى طاولة السؤال سوف يُشرع لنا أبوابًا عديدة، تسهل بفتحها محاكاة الآخر، والاطلاع على خفاياه الملتبسة وفق ما شُرع له من قِبل السلطة، ولكونها محاصرة جسديًا بحكم ما تفترضه سياسة بلدها، فقد سعت إلى تحطيم سلاسل الانعزال عن العالم بواسطة جسدها المصوّر، ليفصح بما خُبئ فيه من عُقد مُستحدثة، فما عرفناه عن إيران ما قبل الثورة أنها كانت جسدية بامتياز، وما دمنا بصدد رصد التحول الزمني،  يبدو لي أنها أرادت غسل الجسد الإيراني واستعراضه على حبل غسيل عالمي، وهـذا لا يتحقق إلّا بالفن وحده.

تبحث شيرين نشأت عن لغة عالمية يقصص من خلالها الجسد حكايته المُرّة، وأحلامه المُكبلة بتعنت يُمارس تحت عباءة الشريعة

نزوع نشأت نحو الكاميرا في تشخيصها للمحنة، انطلق من رغبتها في إذابة جليد اللغة، وضرورة اعتماد لغة عالمية يَقصص من خلالها الجسد حكايته المُرّة، وأحلامه المُكبلة بتعنت يُمارس تحت عباءة الشريعة، ههنا يحضر الهاجس الهويّاتي بكل تناقضاته: فإيران بما تحمل من ثقافات متنوعة أُجبرت في الآونة الأخيرة على إقصاء جسدها، وتسفيره خارج حدود وظيفته، ففرض الشادور ومنع لبس غير المحتشم إعلان صريح باستهداف الجسد، إذ إن حرية اختيار الملبس هي الواصل بين الإنسان وجسده، وفي الوقت عينه يمثل إنتاجًا ثقافيًا بصريًا يضمن للذات استقطاب الشريك الكوني، فكل ثقافة هي خطاب جسـدي صريح، بل إن الثقافة بمجملها هي تخطيب للجسد، وهو ما بيّنته الدراسات الأنثروبولوجية.

اقرأ/ي أيضًا: بيكاسو مظلّلًا بنسائه

في ضوء هذا يمكننا القول بأن كل خطاب ثقافي هو اجتراح جسد مغاير، همه الوحيد كيفية انفتاح كينونته المعزولة، وهدم شمولية التحقير المستمر المراد منها عزل الإنسان عن مجتمعه، والجسد كلما قُيِّد أكثر فقَد مشروعه الاجتماعي؛ فحتى المواطَنة لا تتحقّق من دون جسد، فالمجتمع ينـبثق من الجسد، ومقيد بالجسد الذي يتشكل بدوره بواقعيات الطبيعة الثانية بحسب كرس شلنج، وأيّ اشتغال على الجسد هو تحريك راكد اجتماعي بحد ذاته، لكن في ذلك يلزمنا مخيال قادر على أن يُشرع أبوابه على العالم، هذا ما أشار إليه الباحث إبراهيم محمود من أن "صوغ الجسد يحتاج إلى جهود تتجاوز صائغه، أو المتحدث باسمه، إنه الدخول في جسد الآخر".

إن الصعود اللافت الذي حققه الجسد حرّض الأنظمة البوليسية على ضرورة الحد من ثقافته، ذلك لإيمانهم بشحناته السحرية وقدرتها على زعزعة الجسدية السياسـية، وهنا نشأت علاقة مباشرة معه، إما ضمان حميميته أو تحقيره وإذلاله في الحجز والتعذيب، هذا ما استقرأه مشيل فوكو في كتابه "المراقبة والمعاقبة"، وفي إمعاننا النظر في الطرح الفوكوي نتوصل إلى أن السجن هو مكان تمحيصي، الغاية مـن وجوده في حياتنا فلْتَرة الجسد وتخليصه من طاقته الثورية. وبلد مثل إيران يُقارب هذه النتيجة تمامًا، فحرمان المواطن من حـق التظاهـر يُجمّد الجسد ويجعله مكبّلًا بخيبة طموحاته المهمشة، وهـذا يشـي بحقيقة مواجهة ما بين الجسد الشعبي وبين جسد المقـدّس الحكومي، وأقـصى ما تبتغيه سلطات القهر هو تأسيس جسد قطيعيّ تُحفظ بخنوعه هيـبة الجسد السياسي، الذي يسعى دائمًا إلى التعتيم على النشاطات الجسدية المناهضة، من جراء استبعاد الإعلام الخارجي ومنعه من دخول البلد، إنه دليلٌ على خطورة الكاميرا وصدقها في تعاطيها وقضايا الجسد.

 

ما قدمته الباحثة المصرية مريم وحيد، في كتابها الموسوم "الجسد والسياسة"، من قراءة مستفيضة في رصدها للثورة المصرية، يُعضّد هذه الرؤية في تحليلنا للدور الذي لعبته أجـساد "نشأت"، والمتلقي الفطِن سيجد أنها سعت إلى حل عقدة لسان جسدها المُغيّب بالكاميرا، ليُجاهر بمصائبه بحرية تامة، وبذا تكون قد استهدفت يوتوبيا التشريع، ما يجعلها شريكة لفـرنشيسكا وودمان في وقوفها بين حديّن خطيرين هما الجسد والكاميرا، وقفت نشأت متفحصة زوايا المأزق، ومكثفة من احتكاك جسدها في الكاميرا؛ لرغبتها في استماع العالم لرأيه، وليقول كلمته الراهنة، وكيف تسير الحياة معه، ربما كان طموحها يكمن في المطالبة بعودة جسدها الحضاري، لكن بحلّة جديدة هذه المرة، فـكل شيء في الوجود ينطلق من تراث ما يُرى، إلا الجسد؛ إذ يسـعى قدر التمكن إلى الانطلاق مما يعرف، وهذه مزية فنية خالصة، يدفعنا نحوها إيكو في تناوله لمهمة الفنان المعاصر، وإن وسّعنا النظر بعين جمالية فاحصة سنجد أن أهم فنان يملك ديمومة خلود هو الجسد، وأن ما دأب عليه شعب الفراعنة مـن تحنيط للأجساد يؤكد عجز الموت عن تغييب قدرته، بل إن الموت نفسه حاز على رمزية عالية بفضله؛ فمن دون الجسد يفقد الموت بعده الفني ويُحال إلى اللاشيء.

إن الصعود اللافت الذي حققه الجسد حرّض الأنظمة البوليسية على ضرورة الحد من ثقافته، ذلك لإيمانهم بشحناته السحرية وقدرتها على زعزعة الجسدية السياسية

إن للجسد طاقة فريدة في تأسيس حضوره على المستويات كافة، وفضل هذا يعود لما يمتلك من مؤهلات تضعه على المحك دومًا، وإن أكثر ما يُدهش في الجسد هو امتلاكه حميمية جمالية، وهي بمثابة لا سلكي يضمن له الاتـصال والتواصل حتى مع المتنافر، فالقطيعة دلالة عـلى خـرس الجسد، إذ أن الإنسان حتى في موته يبقى متواصلًا مع الآخرين بجسـده، فزيارة قبور الأولياء تأكيد على شحنة الجسد وتأثيره في الموت، أما من يقول بطاقة روح الميت في إدامة التـواصل إنما يسعى إلى تأميم الفكر الأفلاطوني بفكرة تلحيد الجسد على أنه قبر للروح. كل هذه دلائل تُشير إلى أهمية دور الجسد في تشكيل وعي الإنسان، حيث إن عملية تنظيم المجتمع ما هي إلا تنظيم للأجساد بحسب أحمد زايد.

اقرأ/ي أيضًا: تشكيليون عراقيون: هكذا نواجه العزلة والوباء!

في الانتقال إلى غاية السلطة من ترويض الجسد واكتساب تأييده تتبدى أمامنا حقيقة لا بد منها، وهي أن شيرين نشأت عمدت إلى الـتركيز على الحضوري الأنوثي في أغلب أعمالها، ربما هي تقرّ في دخيلتها بطاقة الجسد الحوّائي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إسماعيل شموط.. يده هي التي ترى وقلبه هو الذي يرسم

الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج.. تراجيديا في الحياة والموت