19-نوفمبر-2020

لوحة لـ سبهان آدم/ سوريا

الضائعون حالمون دومًا، يرسمون أحلامهم على جدران المدن النائمة، يرسمون أسماكًا ذهبية على جدرانها المنخورة بالرصاص، ويعدون عشاءً أخيرًا، ليلتهموا فتات الخبز مثل الحواريين، كفافًا لكل مساء، أو يكتبون قصائد شعرٍ، تعلق على جداريات المدن الغافية، وتنسى القصائد مثل رسالةٍ تمضي وحيدةً في النهر، وتضل الطريق إلى السماء، تضل الطريق الى عين الصباح، الذي ينام عند أوله الضائعون، خوفًا من أشعة الشمس التي تطعنُ قلوبهم كالرماح الخارقة وتعجل بشيخوخة مبكرة، تغازلُ قصائدهم ذلك الدفء الكامن، في المنازل المسيجة والقصور العالية الأسوار، تلك القصور تنام فيها النساء الناعمات، تحت إغماضة الأشجار المترنحة سكرًا، الأشجار التي تتطوح فيها الأحلام مثل الأورق الحيرى.. وهناك الله يسكن في الغرف المطلية جيدًا، يخافُ من البرد ويتدفأُ بالرسائل المضطرمة بألسنة النار، أظن أن الأدعية تستجاب تحت القباء الدافئة، لكن الضائعون لهم الشوارع المقفرة، والبرد القارس، والرياح العاتية والأمنيات التي لا تقبل، وللمؤمنين المنازل المشيدة بالأحجار الثقيلة الدافئة، والصلوات المقبولة.

غاية الضائعين هي الدفء. الضائعون خائفون دوًما، يرتجفون وتصطك أسنانهم، حين يداهمهم الشتاء، يرتعشون مثل سعفات النخل، عند هبوب الرياح القاسية.

ويجوبون الشوارع مثل المجانين، يطوفون الأسواق بأحذيةٍ مهترئة، وقمصانٍ مقطعة الأزرار، كأنهم يعارضون بريق هذا العالم الكاذب.

الضائعون كالأغصان المتعبة تقدحهم البداوة بأحجار الخوف، وتقيم على شرف أوصالهم المقطعة حفل شواء، وغناءً يَسمعُ قرع طبوله كل الخائفين الساكنين في الصحراء المبعدة، وكأن رايات الخوف ترفرف فوق رؤوسهم وتخفق بوحشيةٍ مثل الخفافيش الدموية.

الضائعون يهربون من الصخب الذي ينبثق مثل قنبلةٍ ذريةٍ تزلزل كل العالم، لتتصدع القلوب الزجاجية الخائرة، وينتشر زجاج العالم، تحت أقدام الأطفال الطرية.

الضائعون يهربون من صوت المآذن التي تقض مضاجعهم عند الفجر، ليجدوا كل كلاب العالم السفلي تلهث وتمدّ ألسنتها فوق رؤوسهم العريانة، الصخب للمترفين دوًما.

صوت الديسكو الذي يعكر مزاج المتسكعين الفقراء، الذين يسترخون عند نواصي الشوارع القذرة تلك البقعة المقدسة من الأرض تكون للضائعين.

قرع أجراس الكنائس يخيف الضائعين، لأنها تقرع مثل نواقيس الخطر أو صفارات الإنذار..

الضائعون يتوجسون خيفةً. تضيع خطاهم في الشوارع الطويلة، ويضلون الطريق إلى البيت مثل الأطفال التائهين، ويستمر طريقهم الوعر رغم: العطش، الغدر، الجوع، السلخ، الكيِّ.

يهربون من كلِّ أنواع الموت التي تزدان بها هذي البلاد.

ليتهم يجدون الصمت، أو يجدهم الصمت، ذلك الشيء الذي بحثوا عنه في كل الشوارع والمحطات..

ليت الأبواب المغلقة تفتح أمام وجوههم الضائعة، ويعودون محملين بغاياتهم التي صارت عسيرة، ويلقوا رحلهم، وتعب الأرض، وكل هذي السنين، على ظهر العالم الذي ما زال يركل مؤخرتهم.

ويستيقظون عند الصباح المنشود على:

وجه فتاةٍ جميلة،

وقهوةٍ دافئة،

تندلق على شراشف الذكريات، وتمنحهم الدفء بعد عذاب السماوات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إلى غودو

بين ذائقتين